رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام بليغ الأخيرة.. وصية «سلطان الألحان»: ضعوا على قبرى 4 وردات وأغنية الأخيرة

بليغ حمدى
بليغ حمدى

كل «الهاربين» من مصر إلى باريس ولندن كانوا يمعنون فى التخفى، يتحركون بحساب ولا يظهرون فى أماكن عامة ولا تفارق النظارة السوداء وجوههم إذا ما اضطروا للخروج، ورغم ذلك كانوا يسقطون فى يد «الإنتربول».

سيدة الأعمال الشهيرة علية العيوطى مثلًا التى هربت من مصر بـ«٧٠٠» مليون جنيه من أموال البنوك مع زوجها النائب محمود عزام، فيما عُرف وقتها بقضية نواب القروض، ذهبت مرة لزيارة القنصل المصرى العام فى فرنسا السفيرة نيفين سميكة، بعد تطمينات قاطعة للتفاوض بشأن عودتها وتسوية قضيتها ورد الأموال المنهوبة، وفور خروج العيوطى من القنصلية كان البوليس الفرنسى فى انتظارها بعد أن وشت بها موظفة فرنسية فى القنصلية!

المؤكد أن بليغ لا يعرف علية العيوطى ولم تتقاطع حياته معها، فعدو الفلوس وصاحب أجمل وأصدق الأغانى الوطنية فى حب مصر لا يمكن أن يجتمع مع سارقى فلوس الشعب المصرى، والمؤكد كذلك أنه لم يحاول التخفى يومًا فى سنوات إقامته الاضطرارية فى باريس، فهو لم يهرب من مصر بل مصر هى التى هربت منه، تركها مجبرًا فحملها معه فى غربته، يقتله الحنين إليها كل لحظة.

وفى باريس عاش بليغ نفس حياته التلقائية الفوضوية التى لا يحكمها نظام ولا ترتيب، لا مواعيد محددة لنوم أو عمل أو فسحة، إنه مستعد لأن يضيع يومًا من حياته للذهاب إلى مطعم فى ضاحية بعيدة من باريس سمع أنه يقدم أطباق الملوخية على الطريقة المصرية، أكلته المفضلة التى لم يمنعه عنها حتى تحذيرات الأطباء بعد إصابته بتليف الكبد، توقف عن كل الممنوعات «الشاى والقهوة والسجائر والأكل المسبك» إلا الملوخية على الطريقة المصرية.

ومستعد كذلك لأن يقبل دعوة على حفل زفاف من رجل غريب يقابله فى الشارع لأول مرة، فقد كان فى طريقه ليركب «تاكسى» من الموقف المجاور لفندق «الهيلتون» بباريس حين تعرف عليه رجل مغربى واستوقفه وسلم عليه بحرارة، ثم تمنى عليه أن يقبل دعوته لحضور حفل زفاف ابنته المقام فى إحدى قاعات الفندق فى تلك الليلة، وبلا تردد ترك بليغ موعده ودخل مع الرجل المغربى إلى القاعة، وكان مطرب الحفل اللبنانى نهاد طرابية يدخل مع فرقته.

وانقلب الفرح بسبب وجود بليغ، ترك المعازيم العروس والعريس والمطرب والتفوا حول بليغ يسلمون عليه ويرحبون به، وكان مزاجه رائقًا إلى حد أنه قام ليقود الفرقة الموسيقية أثناء أدائها لحنًا له، وظل بليغ فى قاعة الزفاف حتى السادسة صباحًا، حتى أن نهاد طرابية ظن أن بليغ يرتبط بصداقة قديمة مع والد العروس.

بليغ يعشق الحياة ويعيشها على طريقته ومزاجه بلا قواعد ولا قيود، ولكن الأمر بات مختلفًا بعد رجوعه إلى مصر من غربته القاسية، ولذلك كان فى حاجة لمن يرتب له تلك الفوضى.

«نانسى» التى أعادت ترتيب حياته بعد «المنفى»

عاد بليغ من سنوات المنفى مُحطمًا، قتلته الغربة ودمرته المحنة، كان الشىء الوحيد الذى بقى سليمًا فيه هو موهبته، نهر الموسيقى المتدفق بداخله، ولذلك فإنه بعد يومين فقط من عودته وبراءته كان أول ما فعله أن ذهب إلى استديو صديقه الموزع الموسيقى ميشيل المصرى ليتفق معه على توزيع أغنيته «بودعك» التى كان قد كتبها ولحنها فى باريس قبل عودته.

كانت نانسى فاروق وقتها من تلاميذ ميشيل المصرى، عازفة بيانو شابة ومعيدة فى كلية التربية الموسيقية وتجهز للحصول على درجة الماجستير، وكانت فى استديو المصرى عندما جاء بليغ فى ذلك الصباح، ومنذ تلك اللحظة- كما قالت لى- كان سيناريو جديد لحياتها تبدأ تتراته فى النزول، ومصير آخر كان مختلفًا تمامًا عن ذلك الذى خططت له وسعت، فقد قُدر لها أن تتقاطع حياتها وتتشابك مع المشهد الأخير والمثير من حياة بليغ حمدى.

منذ اللقاء الأول لفتت عازفة البيانو الشابة نظر بليغ بموهبتها وحضورها وآرائها الواعية فى المزيكا، وتعددت لقاءاتهما بعدها، وازداد تعلق بليغ بها، كان يستخدم تعبيرًا رومانسيًا يقول فيه: «ربنا طبطب علىّ بيكى»، إلى أن فوجئت نانسى ذات يوم بتليفون من السيدة صفية شقيقة بليغ تخبرها بأنه يمر بوعكة صحية ويطلب منها أن تحجز له فى مستشفى معروف بمصر الجديدة، بحكم أنها من سكان تلك الضاحية، وهو ما تم بالفعل وجاء بليغ لينزل بالمستشفى ويقوم بعمل فحوصات طبية عديدة.

كان بليغ قد تعاقد حينها على تلحين أغانى مسلسل «بوابة الحلوانى»، وربما شجعه على القبول أن صديقه الشاعر سيد حجاب هو من سيتولى كتابة الأغانى، وأن تلميذه على الحجار هو من سيقوم بالغناء.

حكى لى على الحجار: «كنت أسعد الناس بموافقة بليغ، فهو الأستاذ الذى اكتشفنى وقدمنى بأغنية (على قد ما حبينا) وعمل لى عقد احتكار مدته خمس سنوات، وكان يعطينى ٧٢ جنيهًا مرتبًا شهريًا، وهو مبلغ محترم وقتها، ٥٠ جنيهًا منه من جيبه الخاص، لأن العقد كان ينص على أن أتقاضى ٢٢ جنيهًا فقط، وكانت تتضاعف أضعافًا مضاعفة فى بعض الشهور، ثم جاءت سنوات الغربة الطويلة لتحرمنى من ألحانه، وجاءت (بوابة الحلوانى) لتعيد لى الأمل».

وساءت أحوال بليغ الصحية وتدهورت بشكل متسارع لدرجة أنه قرر الاعتذار عن عدم تلحين المسلسل، لكن نانسى- بجسارة غريبة- رفضت القرار وذهبت إلى بيتها القريب من المستشفى وأحضرت «العود» الخاص بها وقدمته لبليغ لتشجعه على مواصلة التلحين، المدهش أنه استجاب لحماسها وأنجز تلحين المسلسل «التترات والأغانى الدرامية داخل الحلقات»، ولما كانت ظروفه الصحية لا تسمح له بحضور التسجيل فى الاستديو، فإنه أسند لنانسى مهمة توصيل «النوت» الموسيقية والإشراف على التسجيل وأصر على كتابة شكر خاص لها فى تترات المسلسل.

رحلة إلى جدة ومفاجأة قاسية حول «تليف الكبد»

فى تلك الأثناء تلقى بليغ دعوة من أحد أعز أصدقائه بالمملكة العربية السعودية لحضور حفل زفاف ابنه، ومما شجع بليغ على قبول الدعوة أنها فى «جدة»، مما سيتيح له أمرين فى غاية الأهمية، الأول هو زيارة الاستديوهات الجديدة التى تم افتتاحها حينها هناك وكانت تمثل طفرة وتضم أحدث الأجهزة والتقنيات الصوتية فى المنطقة، وكان بليغ يحلم بإنشاء استديو خاص به فى القاهرة، واشترى لذلك شقة فاخرة بمساعدة صديقه الإذاعى وجدى الحكيم وتجاور شقته فى شارع «الملك فيصل»، وكان وجوده فى «جدة» فرصة ليحصل على الخبرات اللازمة، كما أنها فرصة كذلك لإجراء فحوصات طبية دقيقة فى مستشفياتها بما تحتويه من أحدث الأجهزة وأمهر الأطباء.

وكان بليغ على موعد مع مفاجأة قاسية فى نهاية تلك الزيارة التى بدأت مبهجة، إذ أثبتت الفحوصات أن نسبة التليف فى الكبد تجاوزت ٧٠٪، والأخطر هو اكتشاف الأطباء إصابة الكبد بالسرطان.

ولما عاد بليغ للقاهرة، وبناء على نصيحة من طبيبه المعالج د. محمد رمضان، كان عليه أن يسافر فورًا إلى باريس، لدخول أهم وأكبر مستشفى متخصص فى علاج سرطان الكبد، وهو مستشفى «جوستاف روسيه»، وبالفعل أرسل بليغ صور الفحوصات والأشعة إلى صديقه محسن خطاب بفرنسا، وطلب منه أن يتولى حجز مكان له بالمستشفى.

وكان من المفترض أن تسافر معه «نانسى»، لولا أنها لم تكن تملك جواز سفر، ثم إن حصولها على «فيزا» الدخول إلى فرنسا سيستغرق وقتًا، ولذلك لحقت به بعد نحو أسبوعين، كما لحق به «هيثم»، ابن شقيقه حسام، وكان بليغ قد تولى تربيته ورعايته بعد رحيل والده المبكر.

ونظرًا لبُعد المسافة بين شقة بليغ بقلب باريس وبين المستشفى على أطرافها، وافق بليغ على الحل العملى الذى اقترحه صديقه ومساعده محسن خطاب، بأن يقيم فى فندق قريب من المستشفى لا يفصله عنه سوى شارع، وكان برنامج العلاج يستوجب زيارة يومية، أما إجازة نهاية الأسبوع فكان بليغ يقضيها فى بيت محسن، ووسط أسرته، «أطلق محسن على ابنه الوحيد اسم بليغ».

ويحكى لى محسن: «ذات مرة قرر بليغ أن نصل إلى البيت بالأتوبيس، ولما ركبنا فوجئ بليغ بمجموعة من الشباب العرب يسلمون عليه بحرارة، تعرفوا عليه وأحاطوا به، وراحوا يحدثونه بحماس عن ألحانه، وكان بليغ فى قمة سعادته، ولولا أن محطة النزول جاءت سريعًا لبقى معهم طويلًا».

أوبرا إخناتون.. «المشروع الحلم» الذى لم يرَ النور

رغم ظروفه الصحية فإن أحلام بليغ الموسيقية كانت فى قمة تألقها وعنفوانها، وكان من بينها حلم كبير بدأ فى تنفيذه بالفعل، وهو عمل أوبرا مصرية حديثة، مستوحاة من قصة فرعون مصر الشهير «إخناتون»، كان بليغ يتمنى من خلالها أن يقدم للعالم أوبرا عالمية، لا تقل شهرة وروعة عن أوبرا عايدة، ولكن بكلمات وموسيقى عربية، والثابت أن بليغ لحّن مشاهد منها، بعد أن تحسنت حالته الصحية عقب تلقيه الجرعة الأولى من العلاج. وكشف لى المطرب الشعبى الراحل محمد رشدى عن الظروف التى ألهمت بليغ فكرة أوبرا إخناتون: لما سافر بليغ فى رحلة العلاج حدث أن شاهد القناة الفضائية المصرية فى باريس، وبدا الأمر له وكأنه معجزة، وكانت القناة فى بداية بثها الفضائى، وشاهد لى أغنية بالصدفة، فاتصل بى من هناك، ولكنه لم يجدنى، فترك لى رسالة مع زوجتى يقول فيها: «قولى لرشدى الدنيا تغيرت، ودلوقتى بيشوفونا فى أوروبا، يعنى ممكن مزيكتنا توصل لهم وتأثر فيهم.. قوليله بليغ راجع وهيخلى العالم كله يسمعنا».

وحكى لى محسن خطاب أن بليغ صحبه وقتها فى جولة استمرت لأيام متتابعة، ليشترى من مكتبات باريس كل الكتب المنشورة عن إخناتون، وحكى لى «هيثم حمدى» أن عمه زار الموسيقار الفرنسى الشهير موريس جار، ليرشح له موزعًا موسيقيًا عالميًا ليقوم بتوزيع أوبرا إخناتون.

وشرع بليغ فى كتابة وتلحين المشاهد الأولى من الأوبرا المصرية العالمية الجديدة، وكان قد قرر البقاء فى باريس، بعد أن قرر الأطباء تقديم موعد الجرعة الثانية من العلاج، لتكون فى ٨ سبتمبر ١٩٩٣، بدلًا من موعدها الأول فى يناير من العام التالى، وذلك بعد أن أثبتت الفحوصات استجابة جسمه للجرعة الأولى وتحسن حالة الكبد.

يكشف لى محسن عن مفاجأة: سيطر مشروع أوبريت «إخناتون والتوحيد» على تفكير بليغ، حتى إنه طلب منى أن أبحث له عن شقة يقيم فيها بعد خروجه من المستشفى، وكان ينوى أن يبقى وحده فى باريس بعد تلقيه الجرعة الثانية، ليعمل فى الأوبريت فى هدوء ومزاج، بعيدًا عن زحمة القاهرة ومشاغلها.

وقال لى: «شوف لى شقة جنبك، شكلى هرجع أقعد تانى فى باريس»، لم يكن يخفى صدمته بعد رجوعه إلى مصر، لم تعد الحياة هى الحياة كما اعتادها وعرفها وأحبها، لا الأصدقاء، ولا المزيكا، ولا الصحة بقوا على حالهم، وحتى الحفل الكبير الذى أقامه له الأصدقاء احتفالًا بعودته، وحضره كل نجوم الغناء والطرب والتمثيل، كان تعليقه مريرًا: «وكانوا فين وأنا منفى هنا فى باريس.. لا أحد فيهم سأل ولا اتصل».

يضيف محسن: وقبل موعد الجرعة الثانية بأيام ذهبنا فى فسحة إلى «السكركير»، وهو مكان مزدحم بالمطاعم وأماكن التسوق، ومشهور بالرسامين التلقائيين الذين يجلسون فى الشارع مستعدين لرسم بورتريهات فورية لمن يطلب، كما أجرى حوارًا لمحطة إذاعة «الشرق» بباريس مع صديقه الإذاعى فتحى النجار، استمر نحو ساعة، تحدث فيه عن أحلامه ومشروعاته وبينها «إخناتون والتوحيد».. وجاءت الجرعة الثانية لتنهى حياة بليغ وتنهى حلمه الكبير بإنجاز أول أوبرا فرعونية باللغة العربية.

آخر كلماته «لو جرى لى حاجة ادفنونى جنب أمى»

هل ترك بليغ وصية قبل رحيله؟

وجهت السؤال للثلاثة الذين رافقوا بليغ فى رحلته الأخيرة، قالت لى نانسى فاروق إن بليغ ترك لها وصية شخصية، وردت فى إحدى رسائله الخاصة إليها، يقول لها فيها بنص كلماته:

«لا تحزنى بعد موتى ولا تفرضينى على ذاتك بعد ذهابى، كل ما أرجوه أن تذكرينى بزهرة على قبرى ولو كل عام، وأديرى شريط الكاسيت، حيث رقدت، وأسمعينى آخر عمل سمعتيه بعد رحيلى»، وفى مرة طلب أن تكون ٤ ورود بعدد حروف اسمه. كما كانت له أمنية وليست وصية، وهو ما كتبه بنفسه بعد رجوعه من سرادق عزاء الموسيقار محمد عبدالوهاب، فقد شعر باستياء شديد مما رآه وتمنى ألا يتكرر المشهد فى عزائه، وكتب هذا التعليق: «أشكال عجيبة.. بشر جايين يتفرجوا على بشر.. ياه.. حتى الموت بيستغلوه.. يستنفدوا كل وسائل الانتفاع.. وكل واحد بيقول قال لى وقلت له.. ما هو مات بقى مين حيكدبهم.. طبعًا.. يا ترى هيحصل ده معايا بعد ما أموت؟.. من دلوقتى باعلن إنى ما قولتش لحد ومقاليش حد.. وماليش حد». وفى آخر اتصال بينه وبين شقيقته صفية «التى كان يعتبرها بمثابة أمه» أوصاها بألا تقطع المساعدات الشهرية التى يقدمها سرًا للمحتاجين. وأما هيثم حمدى، ابن شقيقه، فقال لى: أوصانى عمى فى أيامه الأخيرة: «لو جرى لى حاجة ادفنونى جنب أمى». وبالفعل جرى تنفيذ وصية بليغ، وعاد جثمانه من باريس ليرقد بجوار «ماما عيشة» المرأة الوحيدة التى أخلص لها من قلبه وأحبها كما لم يحب امرأة أخرى، واختارها لتكون جارته فى مثواه الأخير.

عزاء وتأبين وأزمة قلبية 

أقيم عزاء بليغ فى مسجد عمر مكرم بحضور كل نجوم مصر، ازدحم السرادق بالمعزين من كل الأجيال.

وفى ذكرى الأربعين أقيم له حفل تأبين فى مسرح البالون بحضور أسرته، وهو الحفل الذى غنت فيه وردة لأول مرة أغنية «بودعك»، ولم تتمالك دموعها فبكت، وكأن بليغ كتب ولحّن الأغنية لتودعه بها. وقبل الحفل فوجئت شقيقته «صفية» بأزمة لم تخطر لها على بال: أفراد الفرقة الموسيقية يهددون بالانسحاب إذا لم يحصلوا على مستحقاتهم المالية كاملة قبل الصعود إلى المسرح. كلهم كانوا من أصدقاء بليغ وتلاميذه، وخيره وفضله عليهم كلهم، لم تستوعب ما يحدث، فأصيبت بأزمة قلبية ولحقت ببليغ بعد ساعات! وكأنه كان يعرف ما ينتظره من جحود، فكتب بنفسه ولحّن مرثية وداعه:

بودعك.. وبودع الدنيا معك.