رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العقيقة وأشياء أخرى

 دعاني أحد أقاربي إلى وليمة «عقيقة» في منزله. والعقيقة هي دعوة للطعام يقيمها الأب عندما يرزق بولد ذكر. والطعام يجب أن يكون لحوم ذبيحتين متوسطتين من الضأن أو الماعز، أو بهيمة كبيرة، جاموسة، بقرة، عجل أو جمل. وهي من السنن التي كانت متروكة عندنا في الصعيد، ثم عادت إلينا مع بداية ظهور الوهابية في مصر، التي واكبت عودة الموجات الأولي من المدرسين والعاملين في الخليج والسعودية بوجه خاص في السبعينيات.

في بداية الأمر لم يكن يقيم وليمة العقيقة إلا القادرون، وكانوا يذبحون جديَين بالغين سليمين من ذكور الماعز مضى عليهما أكثر من حول، وكانوا يوزعون لحومهما على الفقراء والمساكين.

أما الآن فقد تطورت الأمور، وأصبح الناس أكثر تدينا من الآخرين، فإنها تقام بذبح خروفين كبيرين من الضأن، والضأن أغلى بكثير من الماعز، مع أن لحوم الماعز أطعم كثيرا من لحوم الضأن، وتقترب في طعمها من طعم لحوم الغزلان.

قبل هذا لم تكن العقيقة معروفة على مستوى عريض كما هي الآن. 
كان الناس من قبل عندما تلد الزوجة ولدا ذكرا، يصنعون كميات من العصيدة، وهي عبارة عن دقيق الذرة المطبوخ باللبن ويضاف إليها العسل الأسود. وكانوا يوزعونها على الأقارب والجيران، أو يضعونها في إناء كبير للأطفال والمتسولين في الشوارع، ثم تطور الأمر وتم استبدال العصيدة بالأرز باللبن والسكر.

كما كان الموسرون عند ولادة الذكر يقيمون وليمة عشاء للأقارب والأهل، تعقبها أمسية يتلى فيها القرآن الكريم.ولم نكن نسمع في طفولتنا عن تلك العقيقة.

قريبي الذي دعاني، أخبرني أن موعد العقيقة في الواحدة بعد صلاة ظهر الجمعة.

في الموعد المحدد ذهبت، وجدت آخرين من أهلنا وجيراننا يجلسون في قاعة خالية من الأثاث إلا من سجاد فخم وحشيات قطنية موضوعة بجوار الحوائط، للجلوس بطريقة الاتكاء، بحيث يجلس الشخص على الأرض أو على حاشية ويمد ساقيه، أو يتكئ. كما يحلو له، والحق أنها جلسة مريحة، خصوصا عندما ترتدي جلبابا واسعا، أما من يرتدي ملابس إفرنجية، فإن تلك الجلسة تعوقه وتضايقه.

جاءت صوان كبيرة مثل تلك الصواني التي نشاهدها في فيديوهات الولائم السعودية، ولكنها تختلف قليلا، الصواني السعودية موضوع فيها كميات هائلة من الأرز المطهي، وفوقها حيوان مطهي بالكامل، أما عندنا، فإن الصواني عليها أطباق كثيرة.

كل طبق فيه قطعة أو قطتان من اللحوم وكمية من الأرز وطبق من السلطة وملعقة من البلاستيك، وكانت هناك كميات من الأرغفة البلدية لمن يحتاجها. ولا توجد خضروات مطبوخة. وبعد أن طافت علينا الأطباق، أكلنا ألذ وجبة من الضأن المسلوق.

وبعد الأكل استرخينا، وطافت علينا أقداح القهوة، تماما كقهوة أهل الخليج، إبريق وفناجين صغيرة جدا، والقهوة ليست داكنة ولكنها فاتحة ورقيقة، وليست سميكة كالقهوة التي نشربها في بيوتنا أو في المقاهي، ويمكن للواحد أن يشرب أكثر من مرة حسب طلبه.

اكتشفت أننا كنا جميعا نرتدي الجلابيب البيضاء، وعدد قليل يرتدي ترينج رياضي أو قميص وبنطلون ولسبب مجهول وغامض، شعرت بأننا لسنا في مصر، فقد تربينا على الأكل حول الطبلية، وعندما أدركتنا الحضارة، أحضرنا المائدة والكراسي، وأصبح لزاما على كل زوجين حديثين أن يؤسسا شقتهما قبل أن يتلامسا، بمائدة ومشتملاتها من الأطباق الصيني التي تملأ دولاب الفضيات وغير ذلك ومع ذلك فلا تستخدم المائدة إلا في مناسبات قليلة، كانت الأسرة تتجمع حول الطبلية في كل وجبة، نضعها على الأرض ونجلس حولها، ونأكل ونحن جلوس على الأرض.

ولا أعرف على وجه اليقين، ما إذا كانت الطبلية هي الأصل للمائدة، أم أنها اختراع مصري أصيل من قديم الزمان، ولأن صاحب الدعوة يعمل في الخليج، فقد وزع علينا بعد الأكل كيسا صغيرا به سواك، مغلف في ورق كفرشاة الأسنان، ومسبحة وطاقية بيضاء، المسبحة صينية الصنع، والطاقية ماليزية، والسواك هندي.

قلت في البداية إن أغلب الحاضرين كانوا يرتدون الجلباب الصيفي الخفيف، وكانت صرعة الجلابيب البيضاء قد وردت إلينا في وقت معاصر لورود العقيقة، ثم صارت اللباس المفضل عندنا في الصعيد، غير أننا كنا قبل ذلك نرتدي الجلباب الواسع ذات الرقبة الدائرية المفتوحة والأكمام الواسعة، ولها فتحات في منتصف الجلباب في الأجناب، لتصل أيدينا إلى أجسادنا لنحك أو نهرش منها، وككل الصناعات المصرية الأصيلة، صارت تلك الجلاليب غالية الثمن، وأجرة تفصيلها عند الخياط البلدي أغلى من ثمن القماش، ولا تتسلم الجلباب إلا بعد عدة شهور، تتردد فيها على الخياط عدة مرات لعمل البروفات، واكتشفنا أن تكاليف الجلباب الواحد مثل تكاليف شراء بدلة صوفية كاملة بمشتملاتها. 
تطوعت الصين وأنقذت الموقف. فجاءت تلك الجلابيب البيضاء رخيصة الثمن. قماشها خفيف ونصف شفاف، وضيقة، يصبح الرجل محكم التعبئة داخلها. ولها جيوب لا تخفي ما بداخلها. وصدرت إلينا أنواعا عديدة منها، جلاليب للنوم دون أكمام ظاهرة، ولكنها قطعة قماش كاملة حيكت بطريقة تجعها واسعة ومريحة، وأخرى للخروج والصلاة مرسوم على صدرها مسبحة. 
والغريب أن دولتنا الرشيدة لم تحاول إنقاذ صناعة الملابس والجلباب البلدي مع أنه من عناصر التراث المصري. مع أنها حاولت إنقاذ عناصر عديدة كادت أن تندثر. 
فهل بعد نتحدث عن هويتنا المصرية أم أننا نستسلم للغزو القادم إلينا من الشرق!