رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام بليغ الأخيرة «6»

أسرار «صفقة» رجوع بليغ من المنفى.. كيف عاد «المتهم الهارب» من صالة كبار الزوار إلى بيته؟

بليغ
بليغ

طوال سنوات المنفى كان بليغ حمدى حريصًا على التواصل مع الوطن المحروم من دخوله، فكان يتابع أخباره بشغف، ولا يمر يوم دون اتصال مع الأهل والأصدقاء فى القاهرة، وكأنه معهم، ولم يكن التواصل عبر التليفون وحده، بل كان بالبريد كذلك، ومن باريس أرسل بليغ عشرات الخطابات إلى أقرب الأصدقاء، يرسل إليهم أشواقه ومحبته ويستعيد معهم ذكريات الأيام الخوالى، ويبثهم كذلك أحزانه ويشركهم فى محنته ويطالبهم بالتدخل لإنقاذه ورد اعتباره وإعادته إلى حضن الوطن.

وعندما رحل الإذاعى الكبير كامل البيطار، فى صيف العام ٢٠٢١، وجد نجله المخرج هيثم البيطار من بين أوراقه مجموعة من الخطابات بخط بليغ، كلها مكتوبة ومرسلة من باريس فى سنوات المنفى، وكلها تتضمن طلبًا واحد: أنقذونى من الغربة القاتلة!.

رفض العفو الصحى وأصر على أن يكون القضاء هو سبيله الوحيد للحصول على البراءة

وليس سرًا أن أصدقاء بليغ القريبين كانوا يستغلون المناسبات العامة التى يحضرها رئيس الدولة ويطلبون من الرئيس مبارك- سرًا وعلنًا- التدخل لإنقاذ بليغ، وليس سرًا كذلك أنه كانت هناك وساطات من حكام عرب لدى مبارك؛ ليتدخل من أجل إنهاء محنة بليغ، ووافق مبارك تحت إلحاحهم على أن يصدر عن بليغ عفوًا صحيًا بمجرد عودته وتسليم نفسه، ولكن بليغ رفض مصرًا على أن يكون العفو غير مشروط، وكانت أمام عينيه تجربة الكاتب الكبير مصطفى أمين، إذ لم ينجح قرار العفو الصحى عنه الذى أصدره الرئيس السادات فى أن يغسل سمعته وتهمته ويغلق قضيته.

ولم يعد سرًا كذلك أن وزير الإعلام الراحل صفوت الشريف كان أشد الرافضين لإصدار مبارك قرارًا بالعفو عن بليغ.

وأصر بليغ على البراءة بحكم قضائى، وهو ما سعى إليه محاموه، حتى صدر حكم فى العام ١٩٩٠ بقبول الطعن وإعادة محاكمته بعد كل تلك السنوات العجاف.

وحددت محكمة النقض جلسة فى ٢٥ نوفمبر ١٩٩٠ لإعادة محاكمته، وكان حضور المتهم فيها وجوبيًا، مما يعنى أن يعود بليغ قبلها إلى مصر، العودة فى ذاتها كانت أمرًا ينتظره بليغ بشغف، لكن الأمر الذى كان يقلقه بشدة أنه يجب أن يذهب إلى المحكمة محبوسًا، كما يقضى القانون، وبالتالى فإن الجهات الأمنية ستقوم بإلقاء القبض عليه فور وصوله للمطار، وسيقضى ليلته محبوسًا قبل اقتياده إلى المحكمة فى الصباح، وهو أمر لن يستطيع تحمله مهما بدا قانونيًا وملزمًا وضروريًا لاستكمال براءته، وشكل هذا الإجراء أزمة لبليغ كاد معه أن يرفض العودة ويظل فى منفاه إلى الأبد.

وهنا تجب الإشارة إلى الدور المهم الذى لعبته الفنانة وردة، زوجته السابقة حينها، فقد حصلت على وعد شرف قاطع من مسئولين نافذين فى الدولة بُحسن معاملة بليغ بما يليق بمكانته، كمبدع لا كمجرم، وأن يخرج حين عودته إلى بيته ثم يذهب من نفسه إلى قاعة المحكمة قبل موعد الجلسة.

وحتى بعد تطمينات وردة له تليفونيًا ظل بليغ مترددًا فى العودة، ولذلك كان على شقيقه الكاتب والدبلوماسى د. مرسى سعد الدين أن يطير إليه فى باريس قبل موعد الجلسة ليعود به فى يده. يحكى لى صديقه ورفيق تغريبته محسن خطاب أن د. مرسى سعد الدين طلب منه أن يقطع تذكرة ويعود معهما؛ ليكون الحارس الشخصى لبليغ ولا يفارقه لحظة، خشية أن «يزوغ» فى آخر لحظة ويضيّع على نفسه فرصة إعادة المحاكمة!.

ورغم هدوء بليغ واستسلامه، لكن رحلة العودة لم تخل من مفاجآت، بدأت فى مطار شارل ديجول، حيث فوجئوا بوجود إضراب لموظفى المطار تسبب فى شل رحلات الطيران وإرباك مواعيدها، وبعد ساعات من الانتظار كان الحل العملى أن يسافروا ترانزيت إلى لندن، ومن هناك تحملهم الطائرة إلى القاهرة.

وفى مطار القاهرة وبمجرد هبوط الطائرة فوجئ بليغ بصديقه وجدى الحكيم يستقبله ومعه مندوب من وزارة الداخلية ليسهل له إجراءات الخروج، وما هى إلا دقائق قضاها فى صالة كبار الزوار حتى كان بليغ خارج المطار فى طريقه إلى بيته، فى واقعة غير مسبوقة، فلم يحدث قبله أن خرج متهم مطلوب ضبطه وإحضاره من صالة كبار الزوار وبرعاية وزير الداخلية!.

لأول مرة: النص الكامل لحكم المحكمة ببراءة بليغ

لم تنشر الصحف يومها إلا تلك الجملة الأخيرة من الحكم، ولكن منطوق الحكم نفسه ونصه ظل مجهولًا، وننفرد هنا بنشره كاملًا كما تلاه رئيس المحكمة:

(محكمة النقض. الدائرة الجنائية المؤلفة برئاسة السيد المستشار عوض جادو، نائب رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: الصاوى يوسف وعادل عبدالحميد، نائبى رئيس المحكمة.. وحضور رئيس النيابة العامة لدى محكمة النقض السيد صلاح أمين، وأمين السر السيد عادل صبحى، فى الجلسة العلنية المنعقدة بمقر المحكمة بمدينة القاهرة فى يوم الأحد ٧ جمادى الأول سنة ١٤١١ هجرية، الموافق ٢٥ نوفمبر سنة ١٩٩٠، أصدرت الحكم الآتى: فى الطعن المقيد فى جدول النيابة برقم ٤٨٧٠ لسنة ١٩٨٦ وبجدول المحكمة برقم ٨٦٣ لسنة ٥٩ قضائية المرفوع من.. الوقائع: اتهمت النيابة العامة كلًا من ١- بليغ عبدالحميد حمدى «طاعن» ٢- سناء حماد عارف «طاعنة», «وهى نفسها صباح مديرة منزل بليغ» ٣- محمود سعيد على «قضى ببراءته» ٤- سعيد محمود عطية «طاعن» ٥- عبدالمجيد محمد تودرى.. بأنهم فى يوم ١٨ من ديسمبر ١٩٨٤ بدائرة قسم العجوزة/محافظة الجيزة.. أولًا: المتهمون من الأول إلى الرابع كان لديهم ما يحملهم على الاعتقاد بوقوع جريمة وأعانوا المتهم الخامس على الفرار، وذلك لتقديمهم لسلطات التحقيق وهم يعلمون بعدم صحتها.. ثانيًا: المتهم الأول ساعد وسهل للمتهم الخامس والمتوفاة سميرة مليان على ارتكاب الفحشاء على النحو المبين بالتحقيقات وطلبت عقابهم بالمادتين ١٤٥/٣، ٣١٧/١ من قانون العقوبات المواد ١/أ، ٧، ٥ من القانون ١٠ لسنة ١٩٦١.

ومحكمة جنح العجوزة قضت حضوريًا فى ٣٠ مارس سنة ١٩٨٦ عملًا بمواد الاتهام..أولًا: بحبس المتهم الأول سنة مع الشغل وكفالة ألف جنيه وغرامة مائة جنيه ووضعه تحت المراقبة الشرطية لمدة مساوية لمدة العقوبة.. ثانيًا: بتغريم المتهمين الثانية والرابع عشرين جنيهًا لكل منهما، وذلك باعتبار أن المتهمين كانا لديهما ما يحملهما على الاعتقاد بوقوع جريمة وأعانا المتهم الأول على الفرار من وجه القضاء، وأن المتهم الأول شرع فى مساعدة وتسهيل ارتكاب الفجور للمتهم الخامس وسميرة مليان، وقد أوقف أثر الفعل لسبب لا دخل لإرادته فيه، وهو وقوع الحادث على النحو المبين بالأوراق.. ثالثًا: ببراءة المتهم الثالث.

ومحكمة الجيزة الابتدائية- بهيئة استئنافية- قضت حضوريًا فى ١٤ من مايو ١٩٨٦.. أولًا: بقبول استئناف المتهم الأول والنيابة العامة شكلًا، وفى الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف.. ثانيًا: بقبول استئناف النيابة العامة بالنسبة للمتهمين الثانية والرابع شكلًا، وفى الموضوع وبإجماع الآراء بإلغاء الحكم المستأنف فيما قضى به بالنسبة لهما وبحبس كل منهما ثلاثة أشهر مع الشغل.

فطعن الأستاذ على نور الدين، المحامى، نيابة عن المحكوم عليه الأول فى هذا الحكم بطريق النقض فى ١٨ مايو ١٩٨٦، كما طعن الأستاذ سمير موسى عطية، المحامى، نيابة عن المحكوم عليها الثانية فى ٢٠ مايو ١٩٨٦.. وبجلسة ٥ مارس ١٩٩٠ نظرت المحكمة الطعن منعقدة فى هيئة غرفة مشورة، ثم قررت الاستمرار فى الجلسة اليوم، وفيها قررت إحالته لنظره بالجلسة، حيث سمعت المرافعة على نحو ما هو مبين بالمحضر.. المحكمة: بعد الاطلاع على الأوراق وسماع التقرير الذى تلاه السيد المستشار المقرر والمرافعة وبعد المداولة قانونًا.. من حيث إن المبين من الأوراق أن النيابة العامة استأنفت الحكم الصادر من محكمة أول درجة، القاضى بتغريم كل من الطاعنين الثانية والثالث عشرين جنيهًا.. ويبين من مراجعة محاضر جلسات المحاكمة الاستئنافية أن الطاعنين تخلفا عن الحضور بجلسة ٢٣/٤/٨٦ التى سمعت فيها المرافعة، فقررت المحكمة حجزها للحكم لجلسة ١٤/٥/١٩٨٦، وفيها صدر الحكم المطعون فيه بالحبس ثلاثة أشهر عمّا نسب إليهما.. ولما كان حضورهما وجوبيًا.. ومن ثم يكون طعنهما بالنقض غير جائز.

ومن حيث إن الطعن المقدم من الطاعن الأول «بليغ حمدى» قد استوفى الشكل المقرر فى القانون، ومن حيث إن مما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه أنه إذ أدانه بجريمة الشروع فى تسهيل الفجور للمتهم الخامس وسميرة مليان.. قد أخطأ فى القانون، ذلك أن الثابت من الأوراق أن الأخيرة لم تطلب المتعة مع الرجال بغير تمييز، بل تربطها علاقة بالمتهم عبدالمجيد تودرى «زوج شقيقتها»، كما أقام الحكم قضاء على اعتبار أن الفجور مرادف للدعارة، فى حين أن القانون ميز بينهما.. وقد خلت الأوراق من كليهما، مما يعيب الحكم ويستوجب نقضه.

وقد حصل الحكمان- الابتدائى والمطعون فيه- واقعة الدعوى بما مفاده أن الطاعن أقام حفلًا فى مسكنه دعا إليه صديقه عبدالمجيد تودرى السعودى الجنسية وبعض المغاربة، بينهم سميرة مليان، شقيقة زوجة الأخير والمقيمة معه فى مسكنه بالقاهرة، كما دعا الطاعن بعض المصريين من أصدقائه وحضر الحفلة كذلك جزائريتان..واستمر احتفالهم حتى صباح اليوم التالى، بينما كان الطاعن- لشعوره بإرهاق- قد دلف إلى غرفته وخلد فى النوم، وإذ انتهى ضيوفه من حفلهم انصرفوا تباعًا من مسكنه وبقى عبدالمجيد وسميرة، التى لم تشأ الانصراف وأصرت على النوم مع الطاعن، ولما لم يصادف طلبها قبولًا لدى زوج شقيقتها عبدالمجيد فإنه اصطحبها إلى غرفة بالمنزل تشاحنا فيها، غير أنها هددته بالانتحار إذا لم يتركها وشأنها فى تحقيق رغبتها، ولما لم يجبها إلى طلبها خلعت ملابسها وقفزت عارية من نافذة الغرفة، حيث سقطت بحديقة المنزل وأصيبت الإصابات الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية، والتى أودت بحياتها.

ولما كان ذلك.. والفعل المسند إلى الطاعن- كما حصله الحكم على السياق المتقدم- لا يندرج تحت أى نص عقابى.. فإن الحكم المطعون فيه وقد دانه بجريمة الشروع فى مساعدة وتسهيل ارتكاب الفجور.. يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون وفى تأويله بما يوجب نقضه وإلغاء الحكم الابتدائى والقضاء ببراءة الطاعن مما أسند إليه.. فلهذه الأسباب: حكمت المحكمة بعدم جواز الطعن المقدم من الطاعنين سناء حماد عارف وسعيد محمود عطية.. ثانيًا: بقبول الطعن المقدم من الطاعن بليغ عبدالحميد حمدى، وفى الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وإلغاء الحكم الابتدائى وبراءته من التهمة المسندة إليه). 

رحلة هروب إلى بيت سمير خفاجى 

 بحس وخيال السينارست المبدع أدرك سمير خفاجى الذى رافق بليغ فى جلسة المحكمة أن عودة بليغ إلى بيته «بعد حصوله على البراءة»، وفى تلك الظروف أمر محفوف بالمخاطر، ففى الوقت الذى كان فيه بليغ ينهى إجراءات الإفراج عنه، كان عشرات من مراسلى الصحف والجمهور قد سارعوا إلى بيت بليغ فى ميدان سفنكس؛ ليكونوا فى استقباله حين عودته، لذلك رأى سمير خفاجى أن ينقذ بليغ من هذا الفخ، فسحبه من يده وفى لمح البصر كانت السيارة تنطلق بهما ومعهما محسن صديق بليغ، وفى بيت سمير خفاجى تناول بليغ أول إفطار له بعد العودة، وأصر أن يكون من الأطباق المصرية الشعبية التى حُرم منها فى سنوات المنفى: الفول والطعمية!.

ولم يكن ممكنًا أن يستقبل بليغ فى بيته كل الأصدقاء والمحبين، فاقترح صديقه سمير صبرى إقامة سهرة مفتوحة فى الفندق الذى يغنى فيه احتفالًا بعودة بليغ، وبالفعل حضرها حشد غير مسبوق من النجوم، بل إن بعضهم جاء من بلدان عربية للاحتفال بالموسيقار العائد. واعترف لى سمير صبرى: أصر مدير الفندق وقتها على أن يتكفل بكل نفقات الحفل إكرامًا لبليغ.

وكان كل ما يشغل بليغ بعد عودته أن يستأنف نشاطه، وأن يعوض السنين التى ضاعت فى المنفى، لذلك لم يتردد فى قبول تلحين أغانى وتترات المسلسل التليفزيونى «بوابة الحلوانى»، خاصة بعد أن عرف أن الذى سيتولى كتابتها هو صديقه الشاعر المبدع سيد حجاب.

وما إن شرع بليغ فى تلحينها حتى شعر بآلام لا تطاق، ونقلوه إلى مستشفى بمصر الجديدة، شخّص الأطباء حالته على أنه مصاب بفيروس «سى»، وفكّر بليغ فى الاعتذار عن تلحين المسلسل، وكاد يتصل بمنتجه سعيد عماشة؛ ليطلب منه البحث عن بديل حتى لا يعطل عرض المسلسل، لولا أن ظهرت فى حياته «نانسى فاروق»، مدربة البيانو والمعيدة بكلية التربية الموسيقية.. و«حالة الحب الأخير» فى حياة بليغ، ومرافقته فى رحلة الوداع الأخيرة.. وتلك قصة أخرى سنروى تفاصيلها.