رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقام راحل «٢»

عندما وضعت قدمى فى الباخرة للمرة الأولى، كنت شديد التوجس والخوف، لم أكن أتصور أننى سأستطيع أن أبتعد عن هذه الحياة، وعن الأشباح التى تطاردنى، 

كنت فتى غرًا مملوءًا بالعاطفة والشغف، يتملكنى إحساس بأننى أستطيع أن أمتلك العالم.. عالمى على الأقل. 

تتبعت الإرشادات للبحث عن قمرتى راضيًا بكل شىء، بل سعيدًا ومبتهجًا، وأنا أبتعد عن مطاردات أبى.. لا أصدق أنه لن يظهر لى فجأة فى محل عملى، وقد فاحت منه رائحة الخمر، مطالبًا بالأجر الذى حصلت عليه، لاعنًا إياى وواصفنى بـ«ابن الزنا»، تغوص روحى فى مستنقعات الوحل المحيطة بقريتى، والتى هربت منها ومن برودتها وركودها، لكن أبى تتبعنى، وفرض نفسه على إقامتى فى الغرفة الخلفية فى مقر مستشار الإمبراطور النمساوى، مئات الأميال تبعد قريتى فى شرق فرنسا عن «لوكسمبورج» حيث المقر الألمانى لمستشارية النمسا، إلى أين يمكن لى أن أذهب أبعد من هذا؟ مضطرًا وخائفًا من الفضيحة، أعطيه ما معى من نقود، وأرجوه أن يذهب قبل أن يلاحظه مسيو «الينور» باتللر القصر، يمضى مترنحًا بين التهديد والوعيد، وأتوه أنا فى مشاعر مركبة مختلطة بين الخزى والحزن والغضب.

عندما اختارنى المسيو لمصاحبته مع سيدى فى هذه الرحلة، كدت لا أصدق أننى يمكن أن أفر من شبح أبى، ومن المشاعر المضطربة التى تسببها تصرفاته فى حياتى.. ماذا لو أنه جاء خلفى؟ كيف يمكنه أن يعبر البحر الرومانى ويصل إلى بلاد الشرق؟ من أين له بتكاليف السفر؟ إن السفر يكلف ثروة لا يقدر عليها سوى الأثرياء، مثل سيدى، الذين تسيطر عليهم اهتمامات غريبة، لا أعرف من أين جاء اهتمام سيدى بالشرق؟ ولماذا حرصه الشديد على السفر كل عامين إلى القاهرة؟ ما هذه البلاد؟ هل هم حقًا مجموعة من الهمج، أم كما يدافع عنهم سيدى أصحاب حضارة وذوق رفيع؟ 

طلب منى سيدى يومًا أن آخذ منه مجلدًا وأضعه على منضدة المكتبة التابعة لمرسمه، الكتاب ثقيل وملىء بالرسومات والقباب والأقواس، لفت انتباهى انتشار زخارف معتمدة فى تكوينها على شكل الصدفة أو المحارة غير منتظمة الشكل ذات الخطوط المنحنية، هذه أحدث خطوط الديكور التى يتبعها سيدى فى تصميماته الداخلية، وكان مكتوبًا تحتها فن «الركوكو»، أسلوب جميل يمنح الأشكال حركة وحيوية. والمدهش أن سيدى هذا الفن تم استقاؤه من فن الزخرفة العربى التقليدى الأرابيسك.

نزلت الدرجات الخشبية، التى تصل سطح السفينة بالدور السفلى، حيث توجد كابينتى، وكبائن الدرجة الثالثة، حيث مقام الخدم والتابعين لدى السادة، ووصلت عبر ممر طويل إلى الكابينة رقم ٣٨، دفعت الباب الثقيل، ودخلت لم تكن القمرة تزيد على مترين فى مترين.. تحتوى على سرير وكومدينو وطبق معدنى ودلو للماء. وضعت حقيبتى على السرير وخرجت كى أطمئن على سلامة وراحة سيدى، فى الممر، وغير بعيد عن غرفتى وجدت ستة حمامات، المتاحة لكبائن الممر، دخلت أولها وغسلت يدى ووجهى جيدًا، فلدى سيدى هوس بالنظافة، وحرص على غسل يديه بشكل مبالغ فيه، رغم كثرة تلطخهما بالألوان والصبغات التى يخلطها ليكون الألوان الزيتية التى يستخدمها فى لوحاته. ومن يشاهد يدى سيدى وهى ملطخة بالألوان ومئزره الأبيض الذى لا يسلم من ضرب فرشاة أو رذاذ صبغة، لا يمكن أن يتصور حرص سيدى على نظافته بطريقة تصل إلى حد الهوس. 

معذور سيدى فى هذا الحرص، فقد ولد فى بيئة شديدة النظافة والهيبة والجمال، فوالده يعمل مستشارًا فى بلاط الملك فيليب ملك النمسا، وقد قضى معظم طفولته يلهو فى صحبة ولى العهد وفى حدائق قصر شونبرون. 

قصر «شونبرون» أعجوبة فيينا بحديقة الحيوان الفريدة والأولى فى العالم، سمعت عن القصر كثيرًا، عن حجراته الألف وأربعمائة، ألف وأربعمائة غرفة، أكبر من عدد بيوت قريتى، التى تستعد الآن فى هذا الوقت الباكر كى تستيقظ كى تجتر تفاصيلها اليومية.

لم أدخل القصر أبدًا، فلم يصطحبنى سيدى معه لهذه المهمات العظيمة، أنا مجرد خادم شاب تلزمه سنوات كى يرتقى لمنزلة «وصيف»، وهى المكانة التى يحتلها مسيو «الينور»، أنا واحد من أربعة تابعين لمسيو «الينور» لكل واحد مهمته الخاصة ومسئوليته المحددة لراحة سيدنا. 

يتبع..