رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام بليغ الأخيرة «4».. أغرب وأعنف خناقة بين «سلطان الألحان» ويوسف إدريس

بليغ حمدى
بليغ حمدى

حقق بليغ حمدى كل أحلام حياته، فنيًا وماديًا، باستثناء حلم وحيد استعصى عليه تحقيقه، وكان بمثابة «جرح» فى قلبه ظل ينزف حتى يومه الأخير، كان حلمه الوحيد المستعصى مركبًا، وهو أن يُنجب.. ومن وردة بالذات.

وكاد الحلم يتحقق، فقد حملت منه وردة مرات، ولكن الحمل كان «يسقط» فى شهوره الأولى، وكان أقرب المرات عندما مرت الشهور الأولى بسلام وراح بليغ يترقب مرور الأسابيع ويمنّى نفسه باكتمال الحمل والحلم، ثم حدث أن كانت وردة قد اتفقت قبلها على إحياء حفل لم تستطع الاعتذار عنه، وفى أثناء البروفات التى كانت تجريها مع الفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن، وبسبب ما بذلته من جهد «سقط» الحمل وسقطت دموع بليغ غزيرة، وظل بعدها لشهور يعيش حالة حادة من الاكتئاب والحزن والوجع.. وبعد أن أيقن بليغ من ضياع الحلم بانفصاله عن وردة، فإنه لم يكن يعبأ بمال ولا ثروة. 

 

«أمير القصة القصيرة» يقضى ليلة فى الصحراء بسبب بليغ

بحسابات الأرقام والألحان والمكاسب فإنه من المفترض أن يكون بليغ فى زمنه من أثرياء مصر ومليونيراتها المعدودين، لكن الذى حصل أنه لم يدّخر ثروة، بل كان ينفق ببذخ إلى حد السفه.. ربما لأنه يعرف أنه لم يترك من صلبه من يرث تلك الثروة. 

وربما هذا ما يفسر أن بليغ لم يكن حريصًا على التملك، فكل ما كان عنده من شقق كان مستأجرًا وكان بإمكانه أن يشتريها وتصبح ملكه، بما فى ذلك «الشاليه» الخاص به فى «صحارى سيتى» بجوار الأهرامات، والذى كان يعتبره بمثابة مكتب بديل يهرب إليه مع أصدقائه المقربين لتمضية وقت هادئ بعيدًا عن صخب القاهرة وزحام مكتبه بالزمالك.

ولا يمكن أن نمر على هذا «الشاليه» دون أن نحكى تلك الحكاية المثيرة التى شهدها ذات ليلة صيفية.. فقد مر بليغ بسيارته على من اختارهم لتمضية السهرة معه: يوسف إدريس، عبدالرحيم منصور، عبدالوهاب محمد، محمد السيد محمد.. وبمجرد وصولهم مع حلول المساء اكتشف بليغ انقطاع الكهرباء، فاعتذر لضيوفه وقال برقة: «زى ما انتم.. أنا ح اروح أشترى شموع وبالمرة أعدى على ماهر العطار أجيبه معايا وكمان أجيب عشا وأجيلكم». 

وانطلق بليغ بسيارته وترك ضيوفه فى ظلام دامس بمنطقة نائية فى صحراء الهرم، وطال غياب بليغ وكاد الليل أن ينتصف، حتى إن عبدالرحيم منصور لم يتحمل ملل الانتظار فدخل لينام حتى يعود الغائب.. ولكن يوسف إدريس كان الأكثر غضبًا وعلى لسانه الكثير من الأسئلة الغاضبة: إزاى بليغ يعمل فينا كده؟.. إزاى يسيبنا فى مكان زى ده بالشكل ده؟..

وأمام تحريض يوسف إدريس وغضبه قرروا الانصراف، وكانت الساعة قد تخطت منتصف الليل، ووقفوا جميعًا على أمل أن يرق قلب أحد أصحاب السيارات المارة فيأخذهم معه، ووقفوا وطال الانتظار إلى أن تعرف صاحب سيارة على يوسف إدريس فوافق أن يركب معه، وكان هناك مقعد وحيد باقٍ كان من نصيب عبدالوهاب محمد بحكم أنه الأكبر سنًا.. فى حين بقى عبدالرحيم منصور ومحمد السيد إلى الفجر إلى أن تمكنا من العودة. 

وفى اليوم التالى ظهر بليغ معتذرًا ومعترفًا بما حدث، والذى حدث أنه لما صعد إلى شقة ماهر العطار وجد عنده أصدقاء له وأعجبته السهرة ونسى ضيوفه فى الصحراء والظلام!.. وحاول بليغ الاعتذار لكن يوسف إدريس ظل غاضبًا منه لأكثر من شهرين بعدها إلى أن صفح عنه، أما عبدالوهاب محمد فخاصمه لمدة شهر، وبالنسبة لعبدالرحيم منصور فلم يقدر على فراق بليغ ساعة واحدة!

وكان لبليغ شقة فى أجمل مناطق الإسكندرية، فوق محل «سان جيوفانى» بالضبط، كانت تطل على البحر مباشرة، وكانت فى الأصل للست ليلى مراد، وحدث أن اقترضت من بليغ مبلغ ٥ آلاف جنيه ولم تستطع سدادها، فأخرجت مفتاحها من شنطتها وقالت لبليغ:

- أنا ح اتنازلك عن شقتى فى إسكندرية مقابل فلوسك.. بس لى هناك شوية هدوم حطهم فى شنطة وابعتهملى مع عبدالفتاح «سائق بليغ وكان فى الأصل سائق عبدالحليم وانتقل للعمل مع بليغ بعد رحيل العندليب». وقد كان، وكان بليغ يعتز بهذه الشقة لأنها من ريحة الست ليلى مراد، وكان يحبها ويقدّرها ويعتبرها أجمل مطربة غنت على شاشة السينما، وحدث أن عرض عليه أصحاب «سان جيوفانى» أن يدفعوا له ٣ ملايين جنيه مقابل أن يتنازل لهم عن الشقة ليتمكنوا من إجراء التوسعات الجديدة فى المحل، ورغم أن الشقة إيجار قديم، ورغم أنه لم يدفع فيها سوى ٥ آلاف جنيه، فإنه رفض الثروة التى هبطت عليه من السماء.. 

وحاول أصدقاء بليغ أن يثنوه عن هذا الجنان واقترحوا عليه الموافقة على العرض والحصول على الملايين الثلاثة، وسيدفع منها أقل من ثلثها فى شقة تمليك فى البرج الفخم المقام أمامها، وهو لا يقل روعة وجمالًا، وسيحتفظ بالمبلغ الباقى.. على الأقل ستكون الشقة الجديدة «تمليك»، وفاجأهم رد بليغ: تمليك لمين؟!

وفاجأهم بما حكاه: أنا اتعرض علىّ تملك شقة سفنكس مقابل مبلغ كان فى إمكانى أن أدفعه بسهولة ورفضت.. وعُرض علىّ تملك مكتبى بشارع بهجت على مقابل مبلغ متواضع كان بإمكانى أن أدفعه بسهولة ورفضت!

ربما الشقة الوحيدة التى تملّكها بليغ كانت رغمًا عنه، فقد كان لبليغ مبلغ مالى كبير عند صديقه الإذاعى الكبير وجدى الحكيم، ولأن وجدى يعرف علاقة بليغ بالفلوس، ومتأكد أن هذا المبلغ سيتبخر خلال أيام، فقد فكر فى أن يستثمره لبليغ، فاشترى له شقة فى العمارة نفسها التى اشترى لنفسه شقة فيها فى نهايات شارع فيصل، وكانت شقة فسيحة «دوبلكس»، فكّر بليغ فى أن يحولها إلى استديو للصوتيات يجهزه بأحدث أجهزة فى العالم، لكن القدر لم يمنحه الفرصة. الفلوس إذن هى آخر ما يشغل بليغ، لا رصيد فى البنك ولا عقارات ولا سيارات، كان ينفق بلا حساب.. ربما كان أول وآخر ملحن يدفع مرتبات من جيبه للمطربين الشبان، ففى فترة كان يتبنى أصوات على الحجار ومدحت صالح وإيمان الطوخى وسوزان عطية ومحمد الحلو وتوفيق فريد، وحتى لا يبددوا موهبتهم فى الغناء بملاهى شارع الهرم كان يدفع لهم مرتبات شهرية يصرفونها فى مواعيد منتظمة من سكرتيره محمود نصر. 

واستمع مرة بالصدفة لمطربة صغيرة وأعجبه صوتها وقرر أن يتبناها، لكنه اكتشف «حولًا» فى عينيها ومشاكل فى أسنانها، فأجرى لها على حسابه جراحة لدى أشهر طبيب عيون وجلسات لدى أشهر طبيب أسنان، دفع فيها مبالغ طائلة، ولكن فى أول حفلة لها اصطدمت بالميكرفون ووقعت على الأرض، فلم يتمالك عبدالرحيم منصور نفسه فانفجر من الضحك وراح يغيظ بليغ على ضياع فلوسه على الأرض: 

- الظاهر يا بلبل إنك عملتلها عملية الحول عند دكتور الأسنان!

ولما توفى عبدالرحيم ذهب بليغ سرًا وعمل شهادات استثمار باسم ابنته «عالية» بمبلغ ٥٠ ألف جنيه وكان مبلغًا خرافيًا آنذاك. 

سر خلافه مع الأبنودى على فيلم «شىء من الخوف»

كان بليغ يتعامل مع عبدالرحيم كابنه، يحب شعره وبراءته وبساطته وحبه للحياة، تبناه منذ أن جاء من الصعيد، وسرعان ما حل «حيما»، كما كان يناديه، محل الأبنودى الذى شكّل مع بليغ ورشدى يومًا ثلاثيًا فذًا فى تاريخ الأغنية الشعبية. 

خلاف بليغ مع الأبنودى كان مثار جدل وتعددت فيه التفسيرات والأقوال، ربما كان أقربها إلى الصحة تلك الرواية التى تقول إن بليغ غضب منه بسبب واقعة حدثت أثناء فيلم «شىء من الخوف»، فقد أسند مخرجه حسين كمال مهمة كتابة أغانى الفيلم وحواره إلى الشاعر الصعيدى الموهوب عبدالرحمن الأبنودى، وبعد أن انتهى من مهمته طلب منه أن يعطى الأغانى لبليغ ليتولى تلحينها، ولكن جاءته نصيحة من الأبنودى:

- يا بوى بليغ صاحبى وملحن عظيم مفيش كلام.. لكن ممكن يعطلنا.. ح يعمل لحن وتانى يوم ح تلاقيه فى لندن ونقعد ندور عليه ست شهور.. لو عايز نصيحتى فيه ملحن شاب موهوب اسمه جمال سلامة.. أضمنهولك وأقدر أخليه يتفرغ لألحان الفيلم..! لكن حسين كمال حسم الأمر: بس أنا عايز بليغ واتفقت معه!

وكان من ذكاء حسين كمال أن انتظر حتى انتهى بليغ من ألحانه المذهلة للفيلم «موسيقى تصويرية وأغانٍ»، ثم كشف لبليغ ما جرى من صديقه الشاعر، فأسرّها بليغ فى نفسه وقرر أن يبحث عن بديل للأبنودى، وكان البديل هو عبدالرحيم منصور.. واستمر تعاون بليغ مع «حيما» حتى آخر يوم فى حياته، وكان رحيله المفاجئ صدمة قاسية لبليغ.. 

وبعد رجوع بليغ من سنوات المنفى المريرة كان قد ذهب عنه الغضب وعاد ليتعاون مع الأبنودى ويفتح معه صفحة جديدة.. 

لم تكن الفلوس إذن هى ما يشغل بليغ، فقد كان عنده ما هو أهم من الثروة والرصيد: المزيكا، كان يود لو يحوزها وينهل منها، وكان رزقه من المزيكا واسعًا وبلا حساب.. كان «يدلدق» مزيكا، إذا جاز الوصف، وكان بإمكانه أن يعمل فى خمسة ألحان جديدة فى وقت واحد، كل واحد منها ببصمة ونغمة متفردة. 

وربما تدلك هذه الحكاية على ما أعنيه، والحكاية على لسان الشاعر محمد السيد محمد:

«لما لحّن بليغ أول غنوة من كلماتى وكان اسمها (سلطانة)، للمطربة الكبيرة شريفة فاضل، فإن بليغ لم يخبرنى بموعد التسجيل، وفاتنى حضور تسجيلها فى الاستديو، وبعد أسبوعين نزل الشريط إلى السوق، وكان يحمل اسم أغنيتى الموجودة على وجهه الأول، فى حين كان الوجه الثانى يحمل أغنية عبدالرحيم منصور «سكر حبيبى».. وفوجئت بأن الكوبليه الثانى فى أغنيتى ليس من كلماتى، اندهشت طبعًا وذهبت إلى بليغ لأسأله عن سبب تغييره وكان معجبًا به وقت تلحينه للأغنية، فسألنى هو ببساطة:

- هو وحش قوى كده؟

قلت له بتلقائية:

- بالعكس.. ده أحسن من اللى أنا كنت كاتبه!

ضحك وحكى لى:

- أصل أنا لما رحت أسجلها فى الاستديو مالقتش غير «المذهب» واكتشفت إنى نسيت الكوبليه التانى فى المكتب.. أخدت جنب فى الاستديو وقعدت كتبت كلام ولحنته علشان ما آخرش التسجيل!

إلى هذا الحد كان تدفقه الموسيقى، كان العطاء وفيرًا إلى حد أن يكتب ويلحن على الهواء، فهو أسهل وأسرع عنده من عودته إلى مكتبه لإحضار بقية اللحن.. وإلى حد أن يكتب عشرات الأغنيات وينسبها إلى آخرين!

ولذلك فى سنوات المنفى لم يكن بليغ يحتاج سوى إلى عود «ينزف» عليه ألحانه فى الغربة.. عود أضيف إليه بيانو عريق من طراز ألمانى معتبر دفع فيه مبلغًا طائلًا وضعه فى ركن خاص به فى المطعم الذى يملكه صديقه ورفيقه محسن خطاب، يأتيه كل يوم ليجلس إليه، وعليه لحّن أغلب ألحانه فى سنوات المنفى، وحاول محسن إعادته إلى مصر ضمن مقتنيات بليغ التى أعادها بعد رحيله، إلى أن فوجئ بالجمارك فى مصر تطلب منه مبلغًا فوق طاقته بل أكبر من الثمن الذى دفعه فيه بليغ أصلًا، بدعوى أن عمر البيانو تجاوز مائة عام، ومن ثم يصبح فى حكم القطع الأثرية، فتركه فى باريس إلى أن يجد حلًا لمشكلة الجمارك، عسى أن تتدخل إحدى جهات الدولة لإعادة بيانو بليغ ليوضع فى دار الأوبرا المصرية. 

لحَّن أغنية «كله قيام تعظيم سلام» فى باريس بأوامر زكى بدر.. واختار «وردة» لتقديمها فى عيد الشرطة

نقول على هذا البيانو لحّن بليغ أغانى سنوات المنفى، ربما كان أغربها أغنية لحنها بليغ بطلب من وزير الداخلية، وقتها، اللواء زكى بدر.. فقد فوجئ بليغ يومًا بتليفون من وزير الداخلية الشهير يسأله عن كلمات أغنية وطنية كان قد قدمها له اللواء الشاعر إبراهيم موسى.. وتذكرها بليغ بالطبع، فقد جاءته فى موقف لا يُنسى، فيومها كان بليغ يعيش توابع محنة قضية سميرة مليان، وكان فى شقته حينما دق جرس الباب وقام هيثم، ابن شقيقه ليفتح، ومن عين الباب السحرية فوجئ بأن الطارق عبارة عن ضابط شرطة برتبة عميد، فجرى ليخبر عمه وينصحه بأن يدخل غرفته حتى ينجلى أمر هذا الضيف الثقيل، وفعلًا استجاب بليغ للنصيحة، ودخل الضيف وجلس وسأل عن بليغ، وأمام إلحاحه خرج له بليغ ليفاجأ بأنه صديقه الشاعر إبراهيم موسى الذى كان بليغ قد لحّن له قبلها أغنيته ذائعة الصيت «ادخلوها سالمين» التى شدَت بها شادية. 

وعاتبه بليغ: يا سيادة العميد.. إنت جايلى كصديق وشاعر.. مش لازم يعنى تيجى بالبدلة الميرى.. خير.. إيه سبب الزيارة الكريمة!.. وأفصح العميد الشاعر عن سبب زيارته المفاجئة: فيه كلمات أغنية وطنية جديدة أنا مكلف أوصلهالك علشان تلحق تلحنها بمناسبة عيد الشرطة الجاى!

كانت الأغنية بعنوان «كله قيام تعظيم سلام»، وكانت من الكلمات التى حملها بليغ معه فى حقيبة سفره إلى باريس.. ولذلك تذكرها بليغ فورًا بمجرد أن سأله عنها وزير الداخلية، والذى قال مداعبًا بطريقته الميرى:

- ح تلحن الأغنية ولا أحبسك؟

وتحجج بليغ بأن كلمات الأغنية تحتاج إلى بعض التعديلات، وعاد زكى بدر ليصدر أوامره:

- اعمل فى الكلام اللى إنت عايزه.. ده قرار وزارى.. المهم الغنوة تلحق حفلة عيد الشرطة.. فى دماغك مين يغنيها؟

وبلا تردد قال بليغ: وردة!

وهكذا غنت وردة فى عيد الشرطة غنوة من تلحين المتهم الهارب من الشرطة بليغ حمدى!