رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسبوع طه حسين على صفحات «الدستور» (2).. رفعت السعيد يكتب: طه حسين.. المجدد الأعظم

  • معرکته ضد الأزهر وأسلوب التعليم فيه ومعركته ضد السائد والمألوف والمعروف كانت مفتاح التجديد فى فكره
  • طه محاذر ماكر يقول كل شىء فى كلمات مبهمة تقول بدورها كل شىء دون أن يمسك أحد بتلابيبه

وكأن طه حسين مدينة لها ألف باب.. فبالأمس نشرنا مقال الكاتب الكبير صلاح عيسى وكان مدخله لطه حسين هو عبارته الخالدة «التعليم كالماء والهواء» ودوره كوزير المعارف فى حكومة الوفد الأخيرة فى تعليم آلاف المصريين مجانًا قبل ثورة يوليو بقليل.. واليوم يدخل د. رفعت السعيد لطه حسين من باب آخر هو «التجديد الدينى» الذى لعب فيه دورًا جسورًا من حيث قدرته على نقد طرق التدريس القديمة فى الأزهر، والاشتباك معها سواء بشكل مباشر وهو ما زال طالبًا فى الأزهر أو عبر الصحافة عقب عودته فى إجازة من البعثة لفرنسا.. وهو ما أدى إلى إلغاء بعثته عقابًا له لولا تدخل السلطان حسين كامل لإعادته إلى البعثة.. يتحدث رفعت السعيد أيضًا عن تأثير طه حسين الفكرى على الشيخ على عبدالرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم».. وعن معركته مع بعض الأزهريين عقب صدور «فى الشعر الجاهلى» ومعالجته للأمر بحكمة.. ودفاعه عن الشيخ عبدالحميد بخيت بعد فصله من الأزهر بسبب فتوى اجتهد فيها، وكذلك معاركه المختلفة فى مجال تجديد الفكر مع رموز الثقافة التقليدية، ولعل اللافت هنا أن رفعت السعيد ينهى مقاله «منشور فى ٢٠١٣» بالتنبيه لعدم تنظيم الدولة الاحتفال اللائق بمرور أربعين عامًا على رحيل العميد، وهى نفس الملاحظة التى أنهى بها صلاح عيسى مقاله الذى نشرناه بالأمس فى ذكرى مرور عشر سنوات وقتها على وفاة العميد حيث لم تحتفل الدولة به الاحتفال اللائق وقتها..ولعل هذه مناسبة لأن نطالب وزارة الثقافة من الآن باحتفال لائق بالذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربى الذى انتصرت مطالبه التجديدية بانتصار ثورة ٣٠ يونيو والذى ظل المتطرفون يحرمونه من احتفال يليق به على مدار أعوام طويلة ماضية.

وائل لطفى

 

 

ونأتى الآن إلى ساحة بالغة الصعوبة، تفرض علينا كتابة من نوع خاص. نحن الآن فى ساحة طه حسين، وأعترف أننى قد حاولت أن أكتب عنه كما كتبت عن غيره من المجددین فلم أستطع. جمعت كتاباته حوالی اثنی عشر مجلدأ وأكثر، يضم الواحد منها أكثر من ألف صفحة. وما كتب عنه أكثر بكثير، وتأملت واحدًا مما كتب عنه وعنوانه «طه حسين- الوثائق السرية- تحقيق وتقديم د. محمد إبراهيم»، وصفحاته أكثر من ألف صفحة. وكتابان عن الكتابات الأولى لطه حسين أحدهما بالعربية للدكتور عبدالرشيد الصادق محمودی، والآخر لذات المؤلف بالإنجليزية وهو (Abdel Rashid Mahmoudi - Taha Husain's Education From theAzar tothe Sorbonne- 1998) ومجموعهما أيضًا يقارب الألف.

بالإضافة إلى عشرات المقالات والأشعار التى تكاثرت بمناسبها الذكرى الأربعين لرحيله. والحقيقة أننى ما أشفقت على نفسی من قراءة هذه التلال من الكتابات فكل وقت أقضيه فيها متعة ما فوقها متعة، لكننى أشفقت على القارئ الذى لم يعلق بذهنه سوى أن طه حسين زلزل الدنيا بكتابه «فى الشعر الجاهلى»، الذى اعتمد فيه صراحة مذهب الشك الديكارتی ليتخذه سبيلًا إلى اليقين العقلانی.

وكان طه قد بدأ بدروس فى الأدب الجاهلى فى الجامعة ثم طبعها فى الكتاب فقامت الدنيا ولم تقعد، وتأول الرجعيون فى الكلمات فقالوا بخطورة الشك فى النصوص الأدبية الجاهلية والمعلقات بما يقود إلى احتمال أنها صنعت فيما بعد الزمن الجاهلى. خاصة وأنه أكد أن النقوش التى وجدت على الآثار المكتشفة فى شبه الجزيرة العربية مختلفة من حيث لغتها ومحتواها لما قيل إنه شعر جاهلی، وهو الذى لا يطابق لا شكلًا ولا موضوعًا ما نعرفه عن الأصول السائدة فى العصر الجاهلى (82.Mahmoui - Ibid - p)، بما قد يفتح الباب للشك فى النصوص المقدسة، وقبلها وعندما عاد طه حسين من مونبيلييه فى (١٩١٥) ليقضى عدة أشهر ثم يعود إلى باريس کتب عديدًا من المقالات بعنوان «حياة الآداب» قال فيها دون أن يلتفت أحد إلى ذلك «إن الخنساء شخصية خرافية لأن أخبارها لم تدون إلا بعد ظهور الإسلام بفترة طويلة».

وكان ذلك قبل صدور الكتاب المتفجر بأحد عشر عاما (راجع محمودی - طه حسين الكتابات الأولى - النص الكامل للمقالات) وعلى أية حال صدر الكتاب فتأول الرجعيون الكلمات وتحدثوا عن إخضاع النصوص المقدسة وقصص القرآن لمبدأ الشك بما قد يؤدى إلى إنكارها. وثارت ثائرة الجميع. وتظاهر طلاب الأزهر طالبين طرد طه حسين من الجامعة وإحراق الكتاب وذهبوا إلى سعد زغلول بهتافاتهم الصاخبة فاستقبلهم بترحاب وكما فعل مع كتاب «الإسلام وأصول الحكم» مستنكرًا الكتاب ومؤيدًا موقف الشيوخ الأشد رجعية لأسباب سياسية فعلها مع طه حسين فخطب فى الأزهريين «هبوا مجنونًا يهرف القول»، وهى عبارة آذت طه حسين كثيرًا إذ يتهمه سعد زغلول ويتهم ما قاله بالجنون. وحتى فن الكاريكاتير الذى كان فى بداياته هاجم قوله «أنا أشك إذن أنا إنسان»، ورسم صورة لطه حسين وهو يقول «أنا أشك إذن أنا دبوس» فقال له «إن ما يستدعى البكاء أن يتحدث السوقة فى شأن العقل». وانبرى كل خصوم طه حسين وهم كثيرون، ومنهم مصطفى صادق الرافعى ورشيد رضا والغمراوی وغيرهم، ممن خاصمهم طه حسين فى مقالات حادة وعنيفة فى تأليف کتب للرد عليه. وأحنی طه حسين للمرة الأولى رأسه للعاصفة، ووجه رسالة إلى رئيس الجامعة يضع فيها النسخ المتبقية من الكتاب تحت تصرفه معلنًا براءته مما نسب إليه، مؤكدًا إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم طلب قبول استقالته، فلم تقبلها الجامعة وكذبت ما نسب إلى طه حسين، مؤكدة على احترام استقلال الجامعة وضرورة احترام حرية البحث حتى ولو كان صاحبه مخطئًا. وأثيرت الأزمة فى مجلس النواب وكادت تطيح بحكومة عدلى، لكن الحكمة تغلبت وتقرر إحالة الموضوع للنائب العام الذى حقق فى الأمر واستمع إلى طه حسين وأصدر قراره بأن الدكتور لم يكن غرضه الطعن على الدين، وأن عباراته وردت على سبيل البحث العلمى، وأمر بحفظ التحقيق إداريًا لانتفاء القصد الجنائى (الأهرام - ٢٣/١١/٢٠١٣- مقال للدكتور أحمد زكريا الشلق - بعنوان .. طى حسين بين الأدب والسياسة).

ويعود بنا هذا الأمر إلى العلاقة الملتبسة بين حزب كبار الملاك العقاريين (الأحرار الدستوريين) وبين الليبرالية كموقف وفكر، وهو فى ذات الوقت حليف للقصر الملكى وموالٍ للاحتلال، والعلاقة الأكثر التباسًا بين سعد زغلول بزعامته المهيبة وبين دعاة التجديد الدينى من أعضاء الأحرار الدستوريين أو المقربين منهم مثل على عبدالرازق وطه حسين.

وعلى أن العلاقة المضطربة بين طه حسين والجامعة كانت أيضًا ملتبسة. فقد واصل طه حسين كتابات كثيفة هطلت كالمطر على صحراء جافة فكتب «الأيام»، وأعاد إصدار كتاب «فى الشعر الجاهلى» بعد أن شطب منه الفصل المثير للجدل وأصدره باسم «فى الأدب الجاهلی» مضيفًا إليه أربعة فصول جديدة تسير على ذات نهجه الديكارتی. فحاز إعجاب الصفوة ذات التوجه الليبرالى، خاصة زملاءه فى الجامعة الذين انتخبوه عميدًا لكلية الآداب فى بداية ١٩٢٨، ولكن القوى الأجنبية فى الجامعة وخارجها اعتادت أن يكون عميد الآداب من الأساتذة الأجانب، وجرى ضغط على وزير المعارف الذى فاتح طه فى الأمر ولكن طه أبى إلا أن يتولى منصب العمادة ولو يومًا واحدًا ثم يستقيل. وقد كان.

وفى نوفمبر ١٩٣٠ انتخب طه حسين مرة أخرى عميدًا لكلية الآداب ليصبح أول مصرى يتولى هذا المنصب ولينال لقبه الأبدى.. الأستاذ العميد.

ونعود إلى طه حسين لنبدأ معه مسيرة شديدة الثراء والتعقيد فى آن واحد. ولد فى ١٨٨٩ فى قرية صعيدية فقيرة، ولسنا بحاجة إلى سرد تفاصيل حياته فقد أوردها تفصيلًا فى كتابه «الأيام» (ثلاثة أجزاء)، ولكننا سنبدأ ومسرعين منذ عام ١٩٠٨، فالفتى ابن التاسعة عشرة بدأ فى التألق خلال دراسته فى الأزهر وانتمى فى ذات الوقت إلى الجامعية الأهلية وكانت الدراسة فيها مسائية، ومنذ ١٩٠٧ كان طه قد تعرف على أحمد لطفى السيد، وتردد دومًا على مكتبه فى صحيفة «الجريدة» التى كان يصدرها حزب الأمة. 

وبدأ طه عبر مسارين متناقضين، فكان يكتب فى «الجريدة» وكانت جريدة ليبرالية، ويكتب فى ذات الوقت فى صحف الحزب الوطنى التى كان الشيخ عبدالعزيز جاويش يشرف عليها، وكانت تتسم بمسحة إسلامية داعية لفكرة الخلافة. ونقرأ لأحد دارسی مسيرته: «فى هذه المرحلة التى توسطت تعليمه فى الأزهر وتعليمه فى فرنسا تعرض طه لالتقاء الثقافتين، وكان هذا اللقاء الأول بين ثقافته الإسلامية الأزهرية وبين المعارف العصرية هو البوتقة التى تكون فيها ككاتب والتى صيغت بفضلها النواة الأساسية لفكره. 

وقد تعلم الكثير فيما بعد، وتعرض فكره لكثير من التحولات، ولكنها لا تفهم إلا بوصفها تنقيحات وتعديلات على النواة الأولى، أوحتى وصفها بمحاولات للانقلاب عليها، وأقول محاولات لأن طه حسين لم ينجح قط فى الفكاك تمامًا من تلك الأسس المبكرة» (عبدالرشيد الصادق محمودی - المرجع السابق - صـ ٩). 

وظل طه يدرس فى الأزهر الأدب والبلاغة حتى تقدم عام ١٩١٠ لنيل شهادة العالمية لكن شيوخه لم يكونوا قادرين على احتمال هذا المتمرد فأسقطوه فأسقطهم من حسابه وترك الأزهر متفرغًا للدراسة فى الجامعة التى أحدثت عنده «فوران عقلی» كما قال. ويفسر البعض هجومه على أسلوب الكتابة نثرًا وشعرًا لكبار کتاب وشعراء عصره بأنها رغبة فى الشهرة. فقد خاصم وانتقد حافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرافعى ورشيد رضا وعبدالرحمن شکری وهاجمهم هجومًا شديدًا تبدت فيه نزعة استعلائية وربما انتقامية. بما دفعه إلى حجب أکثر هذه الكتابات وعدم طبعها مرة أخرى، لكنه رفض أسلوب التعليم الأزهرى بقسوة فكتب «الطفل (هو) يذهب إلى دروسه الأولى فى الفقه، وبدأ دراسته فى حلقة أستاذ يدرس الفقه على مذهب الإمام أبى حنيفة، وكان أول ما درس فى ذلك أحكام الوضوء، وأنواع المياه التى تصلح للتطهير، فالأنهار العذبة ولا سيما النيل ودجلة والفرات وسيحون وجیحون هى أفضل أنهار الدنيا، إنما يأتى إليها الماء من بحر زاخر تحت العرش ماؤه أصفى من اللبن وأبرد من القلب وأحلى من العسل ويسقط الماء من هذا البحر كالجبال الشامخة فتتلقاه غرابيل من السحاب، فإن عصفت بها الريح نسفت هذه الجبال المائية فنزلت إلى الأرض قطرات صغيرة، وقد وكل الله سبحانه وتعالى ملكًا يسوق هذا الماء برفق مرة وبعنف مرة أخرى فيسمع له صوت نسمية الرعد. ولقد درست هذا الدرس، بلوت مرارته، واصطليت مره، وكنت أرى مره حلوًا، ولظاه بردًا منتظرًا آخر الكأس» (الأيام - الجزء الأول - صـ ٣٢).

 إن هذه العبارة تلخص كل حياة طه حسين، فهو ناقم على أسلوب التعليم الأزهرى لكن «مره» حلو.. ولا بد من الانتظار حتى نهاية الكأس. وهكذا هو يتلمس وبرفق كل ما أراد أن يقول ناقمًا على الفكر الظلامی، وعلی هذا النمط من الكتابة الماكرة سار طه حسين دومًا. ونقرأ له ما كتبه فى الجريدة منذ أيامه الأولى فى الجامعة «ليس ينقصنا العلم وحده، إنما تنقصنا معه حرية الرأى . فإن العلم فى بلدنا كثير بالقياس إلى العصور الماضية، وستكون نهضة علمية لو اجتمع العلم والحرية. لكن هذه الحرية لا تكاد توجد لأسباب لا تحتاج إلى بيان» (الجريدة ١٢-٢-١٩٠٩) ثم يعود لتفسير ما يريد وبحذر شديد، فيقول «البيئة المصرية خاضعة من زمن بعيد لمؤثرات قوية لا تقبل المناقشة كالعادات والأخلاق والدين والسياسة، وهذه المؤثرات عقدت الألسنة عن التعبير عما يضمر القلب بل منعت العقل من التفكير والبحث، فوصلنا مع الزمان إلى حالة ليس لنا فيها رأى. 

ونتج عن هذا أننا نحفظ العلم حفظًا ونستظهره استظهارًا وهو يمر بعقولنا مر الحرير على الصخرة الملساء لا يؤثر ولا يتأثر» (الجريدة - ١٢/٢/١٨٠٩). ويمضى هذا الماكر الهادئ الصاخب فيقول «إن ثمة قوة قاهرة واحدة تعقد الألسنة وتفل الأقلام وتعطل الإبداع» (مقال حياة الأدب - الهلال - أغسطس - ١٩١٠).

وفى الجامعة المصرية حصل طه على درجة الدكتوراه (مايو ١٩١٤) فى دراسة عن أبى العلاء المعرى. وقد بدأ فى نشرها عام ١٩٣٠ فى سلسلة مقالات بعنوان «تجديد ذكرى أبى العلاء»، وفى السوربون حصل على رسالة الدكتوراه عن موضوع «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية».

ولم تزل مسيرتنا مع طه حسين ممتدة.

و نمضى فى محاولة التعرف على طه حسين الحقيقى.. فمعرکته ضد الأزهر وأسلوب التعليم فيه ومعركته ضد السائد والمألوف والمعروف كانت مفتاح التجديد فى فكره. وفى عام ١٩١٢ وقبل سفره للبعثة كتب مقالًا بعنوان «الأزهر وتعليم الدين» قال فيه «للأزهر الشريف خصلتان فى تعليم الدين هو فيهما متفرد وبهما يستأثر مستبدًا، وهو لهما محب وعليهما مشفق حريص، الأولی هى مزج الصحيح بالمحال والملاءمة بين حقائق الخاصة وأوهام العامة، وبين فلسفة العقل وخطرفة الخيال بما يجعلها تعبث بعواطف القلب وتمسخ حقيقة الدين وتفسد أعمال الناس. والثانية هى فساد اللغة العلمية وإغراقها فى التعقيد والغموض حتى تخرج من كونها لغة خطاب ومحاورة فضلا عن أن تكون لسان تعلم أو تعليم، والنتيجة هى أن الأزهر لا يحسن تعليم الدين ولا يستطيع أن يسد خلته، بل هو يحدث فى العقل آثارًا سيئة وفى الدين هنات مذمومة.

وهو يؤدى إلى فساد الحياة العقلية وقصور العقل عن فهم الأشياء ووضعها فى منازلها ومصدر ذلك الأوهام والأباطيل التى تتخذ سبيلها إلى الدين» (الجريدة - ٢٣/١/١٩١٢) وحتى التعليم فى الجامعة لم يحز رضاء طه حسين، فهو يكتب تحت عنوان «الجامعة والنهضة»: «كانت الأيام التى قضيناها دارسين للعلم فى هذا العصر الحديث عقيمة قليلة الإنتاج. فليس من سبيل إلى شفاء العقول من هذا المرض إلا إصلاح طريقة الدرس وتعويد العقول أن تبحث حرة غير مقيدة بشهادة المدرسة ولا منصب حكومة ولا إرضاء العامة. والجامعة وحدها هى المؤهلة لذلك» (محمودی - المرجع السابق - صـ٦٨) . 

ولعله من المفيد أن نتوقف لنقارن بين منهجين أو معركتين خاضهما طه حسين والشيخ على عبدالرازق وكانا صديقين حميمين، لكن طه محاذر ماكر يقول كل شىء فى كلمات مبهمة تقول بدورها كل شىء دون أن يمسك أحد بتلابيبه وحتی بعد أن أمسكوا بتلابيبه عقب کتاب «فى الشعر الجاهلى» وكانت المحنة الأشد قسوة فى حياته نراه يكتب إلى على عبدالرازق من باريس فى ٩ أغسطس ١٩٢٦، وبرغم أن الرسالة خاصة فإنه يكتب محاذرًا، ويرد عليه على عبدالرازق بذات العقلية التى كتب بها «الإسلام وأصول الحكم» قائلًا «حرام عليك أن تذكر وأنت فى باريس مشایخ الأزهر وهناتهم فتشوه بهم ما يعمر الذهن من صور الجمال وتكدر بذكرهم لعنة الله عليهم كأسًا هنية صافية، وأقسم لك إنك لو أخذت من زريبة الأزهريين الشيخ بخيت والشيخ شاكر فقط وربطتهما فى حبل واحد ودليتهما من فوق برج إيفل لأظلمت باريس» (طه حسين الوثائق السرية - تحقیق وتقديم د. عبدالحميد إبراهيم - صـ٢٣٣) والفارق واضح، لكن محقق الكتاب يقول إن وسوسات طه حسين لعلى عبدالرازق كانت وراء كتاب «الإسلام وأصول الحكم» سواء فى الأسلوب أو المنحی، وقبل كل شىء الوسوسة والإغراء (المرجع السابق). 

وكان طه رغم أنه ضریر ذا حس مرهف يلقنه كل شىء حتى أن أصدقاءه ومحبيه قالوا إنه ليس أعمى. ويقول صديقه زکی مبارك «يشهد الدكتور طه على نفسه بأنه ضرير وذلك فن من فنون المراوغة، فقد صحبته نحو عشر سنين ولم أنتبه إلى أنه ضرير، وكيف أصدق دعواه وما رأيت رجلًا أرشق منه فى تناول الشئون التى يتناولها المبصرون. كنا نخرج من الجامعة المصرية عندما كانت فى قصر الزعفران وكانت الجامعة لا تزال أهلية، وكنا نقفز إلى المترو وهو يتحرك، ولا يشعر أحد بأننى أصاحب رجلًا من المكفوفين، ومن يصدق أننى لم أحلق ذقتی بیدی إلا بعد أن رأيت طه حسين يحلق ذقنه بيده، وهو يمشى بقامة منصوبة توشی برشاقة الرمح المسنون، وطه لتوهمه أنه ضرير يحاول التأثير باللسان حين فاته التأثير بعينيه.. خلاصة الأمر أن طه حسين استطاع أن يقيم البراهين على أنه من أقطاب الأدب فى هذا الزمان، ولو كنت أصدق أنه أعمى لكففت عنه قلمى، ولكننى واثق أنه مبصر وبأنه الأستاذ القدير» (نقلًا عن الأهرام - ٩/١١/٢٠١٣- مقال لسناء البيسى).. ولم يكن زكى مبارك وحده فى الحديث عن هذا المبصر رغم أنه ضرير. فهناك الشاعر العظيم نزار قبانى الذى قال فيه: 

ضوء عينيك أم هما نجمتان؟

كلهم لا يرى.. وأنت ترانی

ارم نظارتيك ما أنت أعمى

إنما نحن جوقة العميان

عد إلينا فإن ما يكتب اليوم

صغير الرؤى صغير المعانی

آه يا مصر كم تعانين منهم

والكبير کبير دومًا يعانی

لكننا لا نستطيع أن ننهى هذه الكتابة دون مجرد إشارة لمسألتين مهمتين. الأولى معركة طه حسين حول كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» مع الثنائى الشيوعى محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، التى اختتمها معلقًا على ردهما عليه متهكمًا على أسلوب الكتابة اليسارية قائلًا «يونانى لا يفهم». والثانية هى دعوته لكتابة جديدة للغة العربية على أساس النطق كسبيل لإنهاء مشكلات التنوين والنحو، وكتب مقالًا فى الجمهورية كنموذج لهذه الكتابة وقعه باسمه مكتوبًا كما يلى:

طاها حوسين. ولم يهتم أحد بل وتهكموا عليه فصمت وتناسى الأمر.

وتجرى الأيام «أربعين عامًا» على رحيله ويكاد البعض أن ينساه لولا أننا وفجأة نكتشف أننا فى أشد الحاجة إليه.

من كتاب «عندما يجدد التجديد نفسه»