رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسبوع طه حسين على صفحات «الدستور» (1).. صلاح عيسى يكتب: تعظيم سلام للوطن الذى أنجبك

طه حسين وصلاح عيسى
طه حسين وصلاح عيسى

كلما أراد أحد شرًا بهذا البلد انقلب إلى خير.. قاعدة عامة يمكن تطبيقها على عشرات الأحداث، آخرها تلك الضجة التى أثارتها شائعة نقل مقبرة عميد الأدب العربى طه حسين.. صورة لمقبرة العميد مكتوب عليها كلمة إزالة.. أعقبها تصريح عصبى لواحدة من أسرته، أعقبتها مئات التعليقات الغاضبة على «فيسبوك»، ثم توضيح من محافظة القاهرة بأنه ليست هناك نية لنقل مقبرة طه حسين من مكانها.. لا أحد يعرف من الذى كتب كلمة «إزالة»، وهل هو فاعل شرير أم موظف لا يدرك ما يفعل؟.. لكن «الشر» فى كل الأحوال انقلب إلى «خير»، والـ«خير» فى هذه المرة كان اهتمام آلاف الشباب بـ«طه حسين» ووعيهم بقيمته وحنينهم إلى ما يمثله فى تاريخ هذا الوطن.. وكأننا بعد كل هذه السنوات من الاستلاب والتطرف أصبحنا نعى قيمة رائد التنوير طه حسين.. وكأننا بعد كل هذه التحديات التى واجهناها فى عشر سنوات أصبحنا نمسك فى تاريخنا بأيدينا وأسناننا ونعض عليه بالنواجذ.. كانت تلك لحظة مشرقة فعلًا، أحس فيها الناس بأن ثمة ما يجمعهم بهذا الصعيدى العصامى.. مجاور الأزهر الذى اختلف مع مشايخه حول طرق التدريس الجامدة، وذهب يطلب العلم فى الجامعة.. الفقير الذى سافر فى منحة لفرنسا لدراسة الاجتماع فأضاف لنفسه عبء تعلم اللاتينية، وحصل على شهادتى دكتوراه لا شهادة واحدة.. رغم أنه كفيف البصر مبصر القلب.. المثقف الذى ترجم المسرح اليونانى لأول مرة فى تاريخ العربية، ليضيف إلى ترجمات ابن رشد وابن سينا للفكر اليونانى ويضع اسمه إلى جانب أسمائهم.. الشجاع الذى خاض عشرات المعارك، فلم يخف ولم يتراجع.. ولم يضعف.. ابن الموظف البسيط الذى أصبح وزيرًا للمعارف، فقال للمصريين إن التعليم حق لهم كالماء والهواء.. المفكر الذى قال للضباط الشباب إن ما فعلوه يسمى «ثورة» لا «حركة»، فساعدهم على أن يفهموا أنفسهم أكثر، كما هو شأنه مع المصريين دائمًا.. قاهر الظلام الذى لم يكف عن العمل لحظة واحدة منذ طفولته حتى وفاته.. صديق أبى العلاء فى سجنه وناقد المتنبى الأعظم وصاحب شهادة اعتماد نجيب محفوظ كروائى كبير بعد أن كتب عن روايته «زقاق المدق».. صاحب «الشيخان» و«الفتنة الكبرى» و«المعذبون فى الأرض».. الأستاذ الجامعى الذى رعى تلاميذه كأب ويسر لهم ما كان صعبًا.. الرجل صاحب الألف موهبة.. والصعيدى الذى منح الأمل لكل مصرى بأنه يستطيع.. كانت المنحة التى خرجت من المحنة أننا جميعًا انتبهنا إلى أهمية الاحتفال بطه حسين، الذى تمر خمسون عامًا على رحيله فى العام المقبل.. فى السطور التالية مقال من أروع ما كتب عن طه حسين.. يشكو كاتبه صلاح عيسى من أن الدولة وقتها «١٩٨٣» لم تنتبه لذكرى مرور عشر سنوات على رحيل طه حسين! وهو ما يدفعنا إلى القول إن الأمس ليس مثل البارحة.. ويدعونا لأن نحتفل بأسبوع طه حسين على صفحات «الدستور».. وهو احتفال ستتلوه احتفالات مختلفة حتى يوبيله الذهبى فى العام المقبل.

وائل لطفي

كان شحاتة أفندى أحد الذين يُدرسون لى وأنـا تلميذ فى المرحلة الابتدائية، وكان غاضبًا دائمًا، وممتعضًا دائمًا، تتشكل ملامح وجهه- الذى يتوسطه شارب هتلرى يبالغ فى العناية به- فى حالة من القرف المستمر، ربما لأنـه- كمعظم مدرسى المرحلة الأولى آنذاك- كـان مكدودًا بمرتب ضئيل وأسرة كبيرة وأحلام محبطة!

وحين كـان يضيق بازدحام الفصـل، وبصخبنا وضجيجنـا وعـدم استيعابنا الدروس، كان يغلق الكتاب ويمسح السبورة، ليلقى علينـا محاضرة كاملة، يتحدث فيها بصراحة مؤلمة عن رأيه فينا وفى أهالينا وفى «البيئة الواطية»، التى تربينا فى ظلها، ثم يطلب من المخطئ أو.. المقصر، أن يفتح يده، ليتلقى ضربات مسطرته الحادة، التى كان يسميها بـ«الحاجة مبروكة»، فيجاب عادة بكلمات كانت ذائعـة آنذاك على ألسنة تلاميذ المدارس، يكررونها فى آلية ودون فهم حقيقی، خلاصتها أن الضرب فى المدارس ممنوع طبقًا للمادة ٨٨ من قانون لم نكن نعرف رقمه أو اسمه، بل لم نكن متأكدين أنه قد صدر حقًا!

وكانت تلك اللحظة التى ينتقل فيها شحاتة أفندى من القرف والسخط، إلى الغضب العنيف، آنذاك، كان ينهال هجومًا على «طه حسين»، الذى لولاه لما أتيح لأولاد العربجية والغسالات أمثالنا أن يدخلوا المدارس، بدلًا من أن يجمعـوا السبارس- أى أعقاب السجـائـر- من الطرقات، وهو العمل الوحيد الذى يليق بهم.

ومع أن أمى لم تكن غسالة، ولم يكن أبى عربجيًا، إلا أننى لم أتعاطف أبدًا مع شحاتة أفندى وعلى عكس ما أراد، فقد لفتت كلماته نظری لطه حسين، وكان أيامها وزيرًا للمعارف، فتابعت أنباءه وصوره فى الصحف والمجـلات، وسمعته يتحـدث فى الإذاعة، واجتـذبتنى شخصيتـه الغريبة، فدخلت فى عالمه الرحيب أقـرأه- وأقرأ عنـه- كتبًا ومقـالات وتاريخ.. وحين مات بعد ذلك بأكثر من عشرين عامًا- فى ٢٨ أکتوبر ١٩٧٣- شعرت أن يدًا جلفة قد اقتحمت صدرى لتحفر فى القلب ندوبًا لا تلتئم.. وإذن فقد مات طه حسين: طالب الأزهر المشاغب وأول دكتوراه من الجـامعـة المصـريـة القـديمـة.. السوربـون والحى اللاتينى... «الشعر الجاهلى» و«على هامش السيـرة» و«الأيام» و«الفتنة الكبرى»، ألمع وأخصب دراساته فى التاريخ الإسلامى.. كلماته التى لا تنسى ومواقفه التى تبعث الحماس فى القلب مهمـا شـاخ، وفى العقل مهما فقد توجهه: العلم كالماء والهواء.. والحمد لله الذى خلقنى أعمى لكى لا أرى قبح وجوهكم، وإهـدائه الموجز والمعجـز لـكـتـابـه «المعذبون فى الأرض» (إلى الذين يؤرقهم الشوق إلى العدل وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل. وإلى الذين يجدون ما لا ينفقون، والذين لا يجدون ما ينفقون).

ويوم اختاره «مصطفى النحاس»، وزيرًا فى حكومة الوفد الأخيرة، اعترضت السراى، وقال الملك فاروق لرئيس ديوانه «حسين سرى» الذى كان يعرض عليه الترشيحات:

- «طه حسين»؟!.. دا راجل أفكاره يسارية.

طه حسين

ولكن «النحاس» تمسك به، وقال: دا أهم واحد.. أنا مستعد أتنازل عن الجميع إلا طه حسين!

ووافق الملك بعد أن كاد الموضوع يتحول إلى أزمة، وأصبح «طه حسین»، ابن قبانى شركة السكر بنجع حمادى، وزيرًا وباشـا، ففتحت المدارس أبوابها لأولاد الغسالات وأبنـاء العـربجيـة، وفيمـا بعـد قـال «عبدالناصر»- ابن وكيل مكتب بريد الخطاطبة- إن الفقـر كان إرثًا، والعلم كان إرثا، وكذلك كانت الصحة وكان المرض، وبنى «كمال الدین حسین» مدرستين كل ثلاثة أيام، فكم من أبناء الغسالات استنشق هـواء العلم وشـرب مـاءه، وسـار خلف نعش «طه حسین»، بـروب الجامعة، يحمل شهاداته، بدلًا من أن يحمل كوزًا ليجمع فيه أعقـاب لفائف المشيعين.

وحين قرأت «الأيام» بـأجـزائـهـا الثلاثة، مرات، حتى كـدت أحفظها، ثم الكتاب العذب الجميل الذى كتبته عن «طه حسين»- بعد وفاته- زوجتـه «سـوزان»، تـذكـرت صـديق طفولتى «قطب سليمان الحنفى»، احتل وجهه الصفحات: مطاردة الزنابير وصيد النحل وجمع الصمغ والجميز والتوت وسرقة البلح والاستحمام فى الترعة، وشى الذرة على رأس الغيط، لم تكن الدنيا قد أسفرت بعـد عن وجهها القمىء.

ولأن أبى كان أفنديًا ومستوظفًا فقد رحلت ذات صباح إلى القاهرة، وآن لصداقتنا أن تنتهى. ظل قطب فى القرية يساعد أباه، وكان نجار قريتنا الوحيد، فى إصلاح الطبالى وصنع النوارج والطنابير والسواقى، وفيما بعد، أدركت بأسى، وعبر لقاءاتنا المتباعدة، حين أعود لى القرية، أننا أصبحنا ننتمى لعالمين مختلفين، ظل قطب أميًا، لا يفرق بين الألف وكوز الذرة، أما أنا، فقد بدأت أرطن بالإنجليزية، التى كان شحاتة أفندى يعلمنا إياها. وكنت أحلم دائما بأن يحتل قطب مكانًا بجوارى على نفس «القمطر»، ولكنى لم أجهر بهذا الحلم أبدًا، إذ لو فعلت، لغضب شحاتة أفندى، لأننى أضفت إلى المدرسة، شرًا جديدًا هو أولاد النجارين!

وقد دهمنى خبر وفاة طه حسين منذ عشر سنوات بالضبط، كنا قلقين وخائفين، إذ كانت ثغرة الدفرسوار تمر فى يومها الثانى عشر، ومصير رجفة الفرح التى لم يشعر القلب بمثلها أبدًا- وما أظنه سيشعر- بما حدث فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣، بتأرجح بين مرارة الواقع الذى كنا- بحكم وجودنا فى مطابخ الصحف -أكثر علمًا به من غيرنا، وحلاوة الفرحة الوحيدة التى كان قلب جيلنا المملوء تعاسة وإحباطًا، تواقًا للاحتفاظ بها دون عكارة من حزن، لذلك بكيت فى جنازته التى امتلأت بسواد الأرواب الجامعية، ولم أميز ساعتها بين أسباب حزنى المتعددة، ولم أعرف بالضبط هل أبكى الرجل، أم أرثى الفرحة الوحيدة فى عمر الحزن.

لكنى أدركت فيما بعد، حين جمعت كتبه ومقالاته وما كتب عنه، فأعدت قراءتها جميعًا فى نفس واحد، وكأننى أقرأ ذكرياتى معه، أن «طه حسين» لم يكن فردًا عبقريًا، بل كان وطنًا عبقريًا، وأن قصته ليست قصة الأعمى الفقير، ابن القبانى الفقير المثقل بالأعباء والأبناء والمحاط بالجهل والخرافة، والذى لم تكن ظروفه تؤهله إلا لشىء واحد هو أن يقرأ القرآن فى المنادر، وعلى المقابر، ليعود ببعض الفطائر وشىء من البلح، وقد يجد وجبة من اللحم والثريد، ورغم كل ذلك، استطاع أن يخترق السدود والقيود، وأن ينطلق من عزبة الكيلو إلى أبهاء السوربون وقمم الألب وأن يفرض اسمه على الدنيا كلها، بل هى- بالأساس- قصة وطن كان مقدرًا له أن يظل تابعًا وملتحقًا وبلا ذكـر، وقصة شعب كـان الأعداء- يوم ولد طه حسين - يحيطون به من كل جانب:

هزم الفرس الشجاع أحمد عرابى.. هزمه أو كسره «الولس»، كما قيل بعدها فى الأمثال، وفى التل الكبير كانت جماجم الذين ماتوا من أجل الحرية والعدل والاستقلال جبالاً، وفى المنفى يعيش أبطال الثورة، وقد خبا كل شىء، ولم تعد ثمة أحلام، لكن هناك فقط درس قاس لمن يفكر فى التمرد على بريطانيا العظمى وفرنسا العظمى، ورأى دولة عظمى وهناك «الولس» الذى كسر عـرابى يملأ الوطن، ويحكم ويكتب فى الصحف. جيش احتلال إنجليزى وبوليس مصرى بضباط من كـل ملة و١٥ دولة أوروبية، صاحبة امتيازات جعلت كل خواجـة صعلوك أعلى مقامًا من صاحب السمو الخـديو، فقر وجوع وبلهارسيا وانكلستـومـا وبلاجرا وقراع وكوليرا وطاعون وفقر دم وفقر مال. ويتبرع الوجيه مصطفى أفندى الغمراوى بخمسمائة جنيه لتكون فاتحة اكتتاب «أهلى» لإنشاء أول مدرسة كلية- أى جامعة- فى مصر، اشترط شرطًا غريبًا، هو أن تكون لها حديقة مزروعة بالزهـور، فيصرخ الاستعمارى القارح اللورد كرومر: ما حاجتكم لجامعة.. تكفيكم الكتاتيب. بالكتاتيب وحدها، يستطيع كرومر أن يحكم مصر- كما قال مرة- بخمسين جنديًا فقط، لتظل جزءًا من الإمبراطورية التى لم تكن الشمس تغيب عنها آنذاك، ويحق له أن يفخر، كما فعل، بأنه لم يسمح لأية مومس إنجليزية بأن تعمل فى مصر، صيانة للجسد الأوروبى الممتاز أن تبتذله «أشياء» تحمل الجنسية المصرية، أما أجساد نسائنا فكانت مباحة لهم، كذلك كانت أعمارنا، ويا دنشواى التى ذهبت بأنس ربوعك الأيام، على رباك سلام!

بكل الحسابات، حتى بالكمبيوتر الذى لم يكن قد اخترع بعد، لم يكن الوطن مؤهلًا إلا ليكون متسولًا يشحذ من غزاته ويعيش فى كنفهم، لا يرفع فى وجوههم الحمراء المتوهجة بالصحة، بصره المكفوف بالحاجة والذل، وطن مهزوم وضرير وعاجز ومنكمش على ذاته، لكن تحت تلال الجماجم التى تركها عرابى فى التل الكبير، كانت هناك جمجمة لم يقتلها «الولس»، هى رأس الوطن، روحه التى لا تشيخ.. وقلبه الذى لا يموت!

أهى صدفة أن طه حسين الضرير العاجز، حصل على الدكتوراه فى اليوم نفسه، الذى رزق فيه عبدالناصر أفندى حسين، موظف بريد الإسكندرية، بابنه جمال، وقبل عشرة أشهر من اليوم الذى ذهب فيه سعد زغلول، ابن الشيخ إبراهيم زغلول، إلى المعتمد البريطانى ليطالبه بالجلاء عن مصر!!

أهى صدفة، أن طه حسين كان يغالب بصره المكفوف، ليقرأ خرائط الجغرافيا ويتعلم اللاتينية، ويضيف إلى الدكتوراه التى بعث ليتعلمها، أخرى لم يطلبها أحد منه، فى الوقت نفسه- مارس ١٩١٩- الذى كان الوطن فيه ينتفض من أقصاه إلى أقصاه، بعزبه وقراه، بمدنه وشوارعه، بأفنديته وباشواته، بأبناء الغسالات وأحفاد العربجية بصانعى القباقيب وكوائى الطرابيش ومجاورى الأزهر: عجزة كانوا، وكانوا مكفوفين بالفقر والجوع والرمد الحبيبى والرمد الصديدى لكنهم واجهوا جيش بريطانيا العظمى التى لا تغيب عنها الشمس، المدجج بالبنادق، والمدافع والبارود، وآخر تكنولوجيا ذلك العصر، بمجرد عجزهم، بلحمهم الحى وحده، لم يرهبهم تل الجماجم فى التل الكبير هتفوا بالاستقلال التام، ونال بعضهم الموت الزؤام، ومع ذلك واصل الآخرون!

لم تكن صدفة.

ذلك أن طه حسين لم يكن مجرد فرد عبقرى، لكنه كان نزوع أمة لرفض العجز واحتجاج وطن عليه، وثورة شعب ضده، كان يقينًا لا يتزعزع، بأن الحياة لا تستحق أن تعاش، إلا فى مثلها الأعلى فى رفعته وعلوه وسموق هامته قوية وعزيزة وكريمة، وبلا كف للبصيرة:

وحين أن لثغرة الدفرسوار أن تعطى أُكلها بعد ست سنوات من وفاة طه حسين، نصبب «حكومة كامب ديفيـد»- فى عام ١٩٧٩- سيركًا للاحتفال بمولد طه حسين. تزعمته سيدة مصر الأولى، باعتبار ما كان، وما لن يكون ثانية، فلم تكن صدفة أنهم استعاروا جثة الرجل، ليزعموا أنها تؤيد كامب ديفيد، وفاتهم أنه كان رمزًا للتمرد على العجز والخوف، وصرخة ضدهما، وعنوانًا لفتوة وطن وصلابة شعب مرغوا جثث شهدائه فى تراب الولس، لذلك ضن الرجل عليهم وهو ميت بتأييده، كما ضن عليهم به وهو حى، هو الذى عاش ضد الانسحاق والعجز والتبعية، رغم كل ما أحدثوه من ضجيج فكفوا عن الاحتفال بذكراه من يومها، فلا تنسوا أن الذين ملأوا الدنيا ضجيجًا بذكرى داود حسنى قد أهملوا طه حسين! ولا تنسوا أن الذين أكرموا الراقصات وخلدوا مناضلات الفتح فى شارع كلوت بك قد ازدروا طه حسين! 

بيان غير عسكري

يا طلاب المدارس وباعة اللبن الحليب، يا عمال الكومبانية ويا أبناء الغسالات ونسل العربجية، يا من تمرحون فى جامعة بحديقة وزهور، يا بنات المشغل، يا كتاب يا شعراء يا صحفيين، يا جيلى المتخم حزنًا والممتلئ إحباطًا والذى شاخ قبل الأوان، ومات احتجاجًا وهو يسير على قدميه، يا مغنين يا ممثلين ويا مُتفنين، يا سادتى فى المصانع والمزارع.. يا مهاجرين.. يا ضباط... يا جنود.. يا عبدالناصر ويا عبدالمنعم رياض يا مصطفى النحاس، يا زكى مراد يا إسماعيل المهدوى، يا أهل قريتى بشلا مركز ميت غمر دقهلية، يا أهلنا فى يافا وفى حيفا وفى دير ياسين. يا قدس يا فلسطين يا بيروت. يا قطب سليمان الحنفى: يا أيها المؤرقون شوقًا للعدل ويا من لا تجدون ما تنفقون.

- أبونا طه حسين مات فى مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات، اذكروا هذا لأن التليفزيون نسى، وصحف الحكـومـة نست أنهم قـد نـسـوا أبانا.. أما تقرأونهم فى صحفهم يتوجعون لأن التعليم أفسد الدنيا فلم يبق فى البلد خادمة أو غسالة أو جامع أعقاب سجائر بعد أن تعلم أبناء الغسالات والعربجية! لا تبكوا أبانا المنسى، تذكروا فقط أنه كان رمزًا لتحديكم ولا يهولنكم ما يتحدثون به، ولا تخيفنكم الفزاعات التى يشهرونهـا فى وجوهكم. وفى هذا الصباح قفوا حيث أنتم فى مدارسكم ومصانعكم ومكاتبكم، ارفعوا الرءوس، اضربوا تعظيم سلام لعلم الوطن الذى لم يعجز أبدًا ولم تكف بصيرته يومًا! 

فى الذكرى العاشرة لموتك يا أبى.. انحنى على تراب الوطن الذى أنجبك.. أقبله وأبكى! 

من كتاب «تباريح جريح»