رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حديث حول جورباتشوف

توفى فى ٣٠ أغسطس الماضى ميخائيل جورباتشوف، آخر الزعماء السوفيت فى التجربة الاشتراكية التى استمرت ثلاثة أرباع قرن كاملة. وقد اشتد الجدل مع وفاته عما إذا كان جورباتشوف مجرد عميل أمريكى فكك دولة عظمى لمصلحة الغرب أم أنه كان، كما تقدمه وسائل الإعلام الغربية، حكيمًا، متيمًا بحب الإنسانية حتى الدموع، حتى يكاد أن يكون قديسًا نورانيًا رفعه الغرب إلى أعلى المراتب ووصفه الشعب الروسى بأنه «المسيح الدجال»؟.

قال فى رثائه الرئيس الأمريكى بايدن: «لقد قام بإصلاحات ديمقراطية خلال قيادته بعد عقود من القمع السياسى الوحشى». والمقصود أساسًا بالإصلاحات تفكيك الدولة السوفيتية وفتح أسواق روسيا للرأسمالية العالمية، وخصخصة الملكية العامة التى بِيع فيها أضخم المصانع الروسية بتراب الأرض لزعماء العصابات ورجال السوق السوداء، وإنهاء الحرب الباردة وتقليص نفوذ روسيا الاقتصادى والسياسى فى محيطها وخارج حدودها. 

هذا بينما عبّر الشعب الروسى عن تقديره لجورباتشوف ساخرًا به فى النكت، ومنها أن مواطنًا روسيًا سأل صديقه: «ما الذى تعنيه بالنسبة إليك سياسة جورباتشوف؟ تقدمًا أم خداعًا؟»، فأجابه: «تقدمًا للخداع»! 

وصل جورباتشوف إلى الحكم عام ١٩٨٥، وراح فى سنواته الأولى يدعو إلى اشتراكية ذات طابع إنسانى، ديمقراطى، تزيح أخطاء التجربة الاشتراكية جانبًا، وتتقدم فى بناء عالم المساواة، مما حرك لدى الكثيرين الأمل فى تطوير التجربة لكن ليس هدمها، وسرعان ما تبين أن تلك كانت كلمات عبور المرحلة المؤقتة نحو هدم التجربة من أساسها. ورغم عدائه العميق للاشتراكية، فقد سجل الأديب الكبير سولجينتسين، رغم أنه عانى من السجن والنفى، تقديره لإصلاحات جورباتشوف بقوله: «لقد فعل الديمقراطيون الروس بروسيا ما لم تفعله بها سبعون عامًا من الشيوعية»!.

كانت للتجربة الاشتراكية أخطاؤها التى لا تخفى على عين، وفى مقدمتها غياب الديمقراطية وقمع المعارضين، وتبلور فئة حزبية بيروقراطية تنهب ما تشاء مالًا وامتيازات، والعجز الاقتصادى عن توفير احتياجات المواطنين وأحيانًا الأساسية منها. وقد لخص الشعب هناك تلك الأخطاء والتناقضات فى النكتة التالية «المعجزات السبع للسلطة السوفيتية هى: 

أولًا: ليست لدينا بطالة لكن لا أحد يعمل.

ثانيًا: لا أحد يعمل، لكن يتم تنفيذ خطة الإنتاج الخمسية.

ثالثًا: يتم تنفيذ الخطة لكن لا شىء تشتريه فى الأسواق. 

رابعًا: لا شىء تشتريه لكن الطوابير فى المحلات.

خامسًا: لا شىء فى المحلات لكن الثلاجات عامرة فى البيوت. 

سادسًا: الثلاجات عامرة لكن الناس غاضبون.

سابعًا: الناس غاضبون لكنهم جميعًا يصوتون فى الانتخابات بنعم!». 

ولم يكن لجورباتشوف أن يصعد إلى الحكم وأن يقوم بذلك التحول العاصف إلا باستغلال أوجه النقص فى التجربة الاشتراكية والنفاذ منها إلى سياسة أخرى، ذلك أن الخصم الرأسمالى لم يكن لينفذ إلى الاتحاد السوفيتى إلا عبر نقاط الضعف، مثلما أن المياه التى تحيط بالسفينة ليست هى التى تغرقها، لكن تغرقها المياه التى تنفذ إلى داخلها من الثقوب. 

هل كان جورباتشوف عميلًا أمريكيًا كما يصر البعض أم نبيًا كما يصر الغرب؟.

سؤال لا يمكن الإجابة عنه قطعيًا إلا بعد عقود حين ترفع السرية عن ملفات المخابرات الأمريكية، لكن حكمًا بما قام به فإن سياساته لم تخدم سوى مصالح الرأسمالية العالمية، وفى المقدمة منها المصالح الأمريكية، التى تحرص وسائل إعلامها الآن على تقديم جورباتشوف بصفته نبى الإنسانية، مع أن جورباتشوف نفسه لم يكن حريصًا على صورته حتى إنه لم يترفع عن تقديم إعلان عن «بيتزا هت» عام ١٩٩٧ مقابل حفنة من الدولارات!.