رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العمل الثقافى بين الوظيفة والمسئولية

سألنى أحد الأصدقاء الإعلاميين: أيهما أشد احتياجًا للآخر، الدولة أم المبدعون؟، أجبته إجابة غائمة تشبه الإجابات التى تعجب بعض الناس ولكنها لم تحل المسألة، السؤال يبدو سهلًا، ولكن فى اللحظات المرتبكة فى حياة الشعوب من الصعب الإجابة عنه، بسبب أولويات المرحلة، طوال الوقت توجد أولويات لدى الحكومات المتعاقبة، ليس من بينها الثقافة والإبداع، رغم إنفاق الدول على وزارات الثقافة، وعمل مهرجانات وندوات وجوائز.

فى تاريخ مصر الحديثة استثمر نظام جمال عبدالناصر المثقفين الذين تربوا فى الفترة الليبرالية لسند مشروعه الوطنى والتنموى، ونجحت الدولة إلى حد كبير فى جعل الثقافة فى متناول الشعب، ازدهر المسرح، وازدهرت حركة النشر والترجمة، والأوبرا، ودعمت السينما والفنون الشعبية وغيرها، لم تتوقف الدولة من ساعتها عن الإنفاق على الثقافة، ولكن ظهرت فجوة كبيرة بين الشعب والإنتاج الثقافى بشكل عام منذ سبعينيات القرن الماضى، والسبب فى ذلك أن العمل الثقافى أصبح وظيفة وليس مسئولية، وترك الشارع إلى الخيال السلفى الذى لا يؤمن بالإبداع أصلًا، لدرجة أن وظيفة الرقابة على المصنفات الفنية مقتصرة على عدم زعل المتشددين، وبالطبع الصورة النمطية التى صدرها الإعلام عن الكتّاب والمبدعين وهى أنهم لا يعجبهم العجب، وأنهم ينتمون بشكل ما إلى المعارضة، التى لا تعرف أين هى!، وأنهم يفهمون الحرية بشكل خاطئ، وما إلى ذلك من كلام يجعل الرجل البسيط لا يثق فيما ينتجونه. سعدت بما كتبه الصديق وائل لطفى، رئيس تحرير الدستور، قبل يومين عن رحلة قمت بها بصحبة الكاتب الكبير نبيل عبدالفتاح للمشاركة فى عمل ثقافى فى بيت الشعر فى الأقصر، وفى أغسطس، وسعدت أيضًا بما كتبه الدكتور محمد شومان عن الموضوع نفسه، ليس لأن الموضوع يخصنى، لا سمح الله، ولكن لأن فتح موضوع طمأنة الناس على صناعة الوجدان فى بلدهم ضرورى، فى أقل من تسعة أشهر ذهبت إلى العريش رئيسًا لمؤتمر إقليم سيناء ومدن القناة بعد غياب النشاط الثقافى لمدة عشر سنوات عن المدينة الساحرة، وذهبت إلى شبين الكوم ضمن برنامج العودة للجذور الذى استحدثته هيئة قصور الثقافة، وذهبت إلى الإسماعيلية قبل شهر تقريبًا، ومطلع هذ الأسبوع كنت فى الأقصر، أذهب إلى هذه المواقع ليس فقط بسبب الشعر ولا بحثًا عن مكانة، فقط أريد أن ألتقى بشرًا ينتظرون أمثالى من الذين وهبوا حياتهم للكتابة والعمل العام، وفى كل مرة أعجز عن التعبير عن امتنانى لأننى أعود ممتلئًا بالأمل، ولأننى ألتقى شبابًا يبدأ الطريق وجمهورًا متعطشًا لمصافحة الكتابة وكتابها. إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعى نجحت فى شىء، فهى نجحت فى كسر مركزية القاهرة الثقافية، ولم يعد الشاعر أو الناقد أو القاص على سبيل المثال مضطرًا إلى ترك بلده، وأصبح حاضرًا كأنه يعيش فى العاصمة، بالطبع توجد ظواهر تفتقد القيمة والجدية، هذه المواقع نجحت إلى حد كبير فى تقريب المسافات بين الناس، ولكنها عجزت على بعث الحميمية بينهم، الذهاب إلى الإقليم والتواصل المباشر مع مستهلكى المعرفة مفيد للطرفين، لأن التفاوت بين شرائح المجتمع الذى تسبب فيه النظام التعليمى فى القاهرة تحديدًا لا وجود له فى الأقاليم تقريبًا، الأجيال الطالعة تتلقى تعليمها فى مدارس وجامعات حكومية، مما جعلها أكثر انسجامًا وإيمانًا بدور الدولة فى التعليم، ونتمنى أن تؤمن بالدور نفسه فى الثقافة والصحة. كتب الراحل الكبير محمود عوض تحت عنوان «أن نحب مصر وأن تحب مصر أبناءها»: فى الدولة العصرية هناك جانبان حيويان تمامًا فى متانة النسيج الاجتماعى، نظام التجنيد الإجبارى ونظام التعليم المجانى، فى التجنيد الإجبارى يدفع الأبناء ضريبة الوطن لمدة محددة، بلا تمييز وبغير استثناء، وفى التعليم المجانى يتساوى الغنى والفقير، والجنوبى والشمالى، فى الحصول على خدمة تعليمية إجبارية توفر أيضًا مفتاحًا الى الانصهار الاجتماعى والاندماج فى المستقبل، أحد وجهى العملة هو أن يحب المصريون مصر، أما الوجه الآخر فهو أن تحب مصر أبناءها، كنت أتمنى أن يضيف «وتثقفهم» لأن الثقافة تحمى المواطنين من الكراهية والعنصرية والإرهاب والتمييز والطبقية، وتجعلهم يحكمون عقلهم فى اللحظات المرتبكة التى تمر بها بلادهم، نعرف أن هناك من يؤكد أنه مع ما أقول، ولكن توجود أولويات، والظروف غير مواتية الآن، هذا الشخص لا يعرف أن حاجة الدولة فى هذه اللحظات إلى الثقافة والمثقفين والإبداع، ينبغى أن تكون أكبر من حاجة منتجى هذه الثقافة لها.