رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متلازمة المطبخ من هنا

منذ أن استوطن الإنسان الأرض وهو يبحث عن سد احتياجاته الإنسانية من مأكل ومشرب ومسكن وحماية، واستعراض لمقوماته حينها في بيئته المحدودة ومتطلباتها، وكان الرجال يذهبون للصيد لتوفير الغذاء الذي يسد جوعهم ويوفر الرعاية لأسرهم، ومع تغير الحياة وكثرة الحروب والملاحم كان من المنطقي أن تقسم الأدوار وتترك مسئوليات حماية ورعاية الأسرة والأطفال للنساء لحين عودتهم، وباطلاع سريع للعصور التاريخية المختلفة ستجد أن الشعوب ناضجة تجاه احتياجاتها وتنسيق مهامها بين ركني الإنسانية فلن تجد مهمة ظلت طوال الأزمنة التاريخية عالميا حكرا على جنس دون الآخر وكان الأمر جلياً في الحضارات العريقة التي كانت تجد لكل جنس مهامه المناسبة لكفاءته الفردية ولا تحتكر جنساً أو فئة  أو تكرهها على مهام غير متكافئة معها وكان التشارك سيدا لعقلية الحضارات العريقة.
على إثر ذكر الحضارات فنحن أبناء حضارة رسخت قيم المساواة بين الجنسين ولم تعط أفضلية قدر ما أعطت مساهمة دائمة أبدية بين الرجال والنساء في صنع الحضارة، حتى داخل مفاهيم الزواج كانت المرأة شريكة للرجل تقسم بينهم مسئوليات تدبير المنزل برفقة أبنائهم ليكونوا أكثر وعيا بأدوارهم حينما يشبون في مجتمعهم، لم يعرف عنا أبدا ولا عن حضارتنا صراعات تتعلق بتحكير نوع، أو تهميشه أو المنازلة بين الرجل والمرأة في واجبات أسرية، وإهمال طرف لصالح الأبناء أو النزاع من أجل صعود جنس على استنزاف الجنس الآخر وإلقاء كل المسئوليات في سلته وحده، ولم يكن المصري القديم بمتواكل في أبسط أنواع احتياجاته اليومية كتحضير طعامه أو هيئته وكل هذه الدلالات التاريخية منطقية فلم تكن لتبنى حضارة بهذه العظمة وهي تتصدع داخليا بشروع وصدمات نوعية أو حتى بفضائح تهميش وإذلال وفرض هيمنة زائفة على حساب الآخر.
ورغم أننا أبناء وأحفاد لتلك الحضارة التي رسخت على المساواة والتراضي واحترام الشريك وتقديس الأسرة والعمل معا، إلا أننا تأثرنا على مدار عقود بأفكار وعادات لم تكن تستطيع أن تعبر من أرضنا يوماً في حياة الأجداد، ولكنها مرت وعششت واستطونت لسنوات حتى ظننا وهماً وتلفيقاً أن تلك هي عاداتنا وشرقيتنا وأصولنا وهويتنا، وظلت النساء لعقود بعيدة كل البعد عن الركب والإصلاح المجتمعي، قابعين في المنازل من أجل خدمة أسرهم وراحتهم ولا مانع في ذلك إن كان هذا هو اختيارهن ونظرتهن للحياة وطريق النجاح الذى يرغبن به فهن أحرار في ذلك الأمر، ولكنه مع الأسف كان في أغلب الوقت تحت فرض الهيمنة السامة وخلل القوى والقوامة الهشة التي استرخت على صحة وأجساد النساء ليس فقط في رعاية الأسر بل رعاية عائلات كاملة من جانب امرأة واحدة يدعون أنها ضعيفة البنية والحكمة.
ومع التغيرات المجتمعية وانتشار التعليم وتقنيات البحث كشف الستار عن الأمور التي أماتت النساء بحجج دينية وفرضيات مجتمعية زائفة فحدث ما هو أشبه بتصحيح للمسار والعودة لجذور الآباء واحتضان للهوية الأم والجينات العريقة بداخلنا وعاد النساء لمزمار العمل العام والتنمية المجتمعية بجانب شركائهم الرجال بفضل مسيرة حافلة من نضال الرواد السابقين.
ولا عجب أن رحلة تصحيح المسار المقدسة لم تخل من العراقيل والعقبات المستمرة في وجه النساء، ومحاولات دائمة للتشكيك بكفاءة المرأة وادعاء افتقارهن إياها في العديد من المجالات بل محاولات تعنيف نفسية للنساء العاملات بوصمهن كأمهات فاشلات، وزوجات مقصرات، وناجحات عانسات بل دعوة للنساء بالعودة لمكانها ومطبخها كنوع من أنواع التحقير والإهانة والأمر حينها كان يبدو منطقيا وطبيعياً فلا تصحيح دون مساع للعرقلة، ولكن غير المعقول حقاً أن نكون مستمرين حتى اليوم في مثل هذه الهراءات بكل الاستحقاقات التي حققتها كفاءات نسائية في يومنا هذا، وبخاصة مع تغير الهوى العام للمجتمع والحاجة الاقتصادية واختلاف سلة الاحتياجات الإنسانية التي لن يستطيع فرد توفيرها لأسرة بمفرده.
وأصبح العودة للمطبخ شعاراً يتبناه البعض على مواقع التواصل كتعليق دائم على كل خبر أو محتوى للنساء، ولا نعلم منذ متى أصبح المطبخ من الخبائث لنسب به الغير، أو متى أصبح إعداد الطعام ضعفا وهزلا لا يليق إلا بالنساء، ومتى امتنع الرجال عن تناول الطعام ليحقروا من احتياج إنساني ملح لحياتهم اليومية، ولا نعلم ما الفخر أيضا في أن يكون إنسانا مثلاَ لا يستطيع قضاء حاجته بمفرده وعلى غراره لا يستطيع إطعام نفسه بمفرده فماذا لو أضربت النساء على دخول المطابخ هل تستطيعون طلب الطعام يومياً من المطاعم الخارجية  أم ستتضورون جوعا وتصيحون فكيف تقنع شخصا بأن دوره في الحياة هو نفس الشىء الذي تحقره وتهينه به وتطمع في أن يستجيب لك؟ لا أرى في هذا الأمر غير خللاَ في التفكير، يخدم تمكينا زائفا وخوفا من العزلة من نفس ضعيفة تتمنى أفضلية من العدم، وذكورة هشة تدعى قوامة بنيت على الصيت لا الفعل، وسيطرة مرضية لا فائدة منها، وراع يعشق الاتكال ويحافظ على صورة ذهنية يتخللها رعاية شفهية مزعومة.
وياليتكم تحاولون فرض هيمنتكم باحترام لما تدعون له بل أنتم من ابتدعتم النظرة الدونية لمهام الزوجة والأم، فالنساء لم تر يوما أن رعاية الأبناء وحمايتهم وتقديم كافة أشكال العناية بهم انتقاص من قدر المرأة، ولا توجد حركة على وجه الأرض تدعم حقوق النساء تدعوها لهجر أبنائها وأسرتها، أو أن تضعهم كأولوية أخيرة في الحياة، ولم تحقر المرأة أي دور تقوم عن تراض وتفاهم وشراكة مبنية على التقدير والاحترام، ولكن الغريب في الأمر أن نعود للوراء كثيراً فنضع الأسرة والعمل في كافتين متضاربتين فإما أو، مستخدمين تعميما أعوج، أو تجربة فردية على قدر احترامها على قدر عدم جواز قولبتها، فجميعنا كرجال ونساء مختلفين بتجاربنا، بعواطفنا، بقدراتنا النفسية والصحية والجسدية، فقد أكون إنسانا متفرغا تماماً ولكننى لست أحمل قدراً كبيراً من العطاء والرعاية ولا أهتم بتفاصيل من حولي، وقد أكون على النقيض تماما ولكنني أمتلك من الامتيازات والمهارات ما يمكنني من أن أعطى اهتماماً كبيراً في وقت أقل، قد ينهكنى أقل مجهودا بالمنزل وقد أستطيع بذل مجهوداً بالداخل والخارج، كما أن اختلاف الشركاء والأبناء أيضا له عامل كبير في تمهيد اختياراتى مهما كانت شديدة الصعوبة، أو عرقلة أبسط الاختيارات على حد سواء.
الأمر الذي نريد قوله أن تجربتك الخاصة بترتيب أولياتك واختياراتك بكل نجاحها لن تشبه تجربة الآخر مهما تقاطعت بعض النقاط المشتركة، فيجب أن ندرك أن كل إنسان رجل أو امرأة يعي بنفسه جيداً، ويعرف حدود إمكاناته ورغباته، ويدرك من يحيطون به في رحلته، يستطيع بحرية مطلقة أن يختار ما يريد، ويتعقبه حتى يصل له وهذا فى حد ذاته تعريفاً واضحاً للنجاح الذى ليس له قالب محدد أو شكل، فلا يجب أن نملى علي أحد اختيارات، أو أن نحقر من نجاحه وعطائه أيا كان موقعه الذي اختاره، لا يوجد اختيار يُنقص من قيمة الإنسان، فلا يجب أن يُفرض على الجميع قالب واحد لا يراعى فروقا أو اختلافات أو قدرات ويجعلهم صوراً مكررة بلا هوية.