رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بهاء طاهر يكتب: يحيى حقي.. سيد المقال

بهاء طاهر
بهاء طاهر

«بهاء طاهر» يكتب عن «يحيى حقى».. هل هناك متسع لكل هذا الجمال؟ عظيم يكتب عن عظيم.. وناسك يكتب عن ناسك.. وراهب يكتب عن راهب.. ومترفع يكتب عن مترفع.. وسفير يكتب عن سفير.. حين يكون الأستاذ بقيمة «يحيى حقى» فلا أقل من أن يكون التلميذ بقيمة «بهاء طاهر».. تفصل بينهما ثلاثون عامًا كاملة من العمر.. لكنهما يشتركان فى كل الصفات السابق ذكرها.. يحيى حقى صاحب «قنديل أم هاشم» و«البوسطجى» و«دماء وطين» كاتب مقال.. لكنه ينحت كلماته بأزميل فى قلب الحجر فتبقى عبر الزمن.. وبهاء طاهر صاحب «خالتى صفية والدير» و«الحب فى زمن المنفى» يشاركه فى قلة أعماله كما يشاركه فى معظم صفاته.. على أن يحيى حقى أبدع فى فن المقال كما أبدع فى غيره.. فمقاله قصة وقصته مقال، وبهذا المعنى فهو غزير الإنتاج.. حيث جمع تلميذه الناقد فؤاد دوارة مقالاته كلها لتصدر فى عدة كتب متتالية فى أواخر الثمانينيات فإذا بها لا تقل إبداعًا ولا إمتاعًا عن أعماله القصصية والروائية القليلة.. وهو ما التقطه الأستاذ بهاء طاهر فوصفه بـ«سيد المقال». وإذا كان لنا أن نطالب بشىء فهو بإصدار طبعة شعبية من كتاب «أبناء رفاعة» الذى كتبه الأستاذ بهاء طاهر عن آباء الثقافة المصرية، لعلنا نعرف قيمتهم وقيمتنا، ولعل هذا يدفع بعض من ينتسبون للثقافة المصرية هذه الأيام أن يتوقفوا عن التمرغ فى الوحل.  

                                                                                                             وائل لطفى

من يستطيع حقيقة أن يكتب مقالًا عن سيد المقال؟.. كيف يمكن لكاتب وهو مطمئن النفس أن يستخدم الكلمات العارية الخشنة ليصف بها لغة يحيى حقى؟.. يوشك ذلك أن يكون عدوانًا على كلماته التى تشف بلورًا صافيًا، تخلص من كل الشوائب والزوائد وانتظم فى بناء موسيقى ما إن تقرأه حتى يتحرك فى داخلك نغم متصل من جملة إلى جملة تمتزج فيه البسمة بالأمل والمتعة بالشجن. فأنت هنا مع أديب على قدر ما فى كتابته من تسامح وإنسانية وقدرة على الفكاهة لا تبارى، يفتح عينيك على هموم كنت غافلًا عنها ويفجر ألغامًا لم تكن تتوقعها، ثم سرعان ما يمسح الهم عن نفسك بابتسامة حانية. وأنت تبتسم معه بالفعل، ولكن ذلك الشجن الخالى من القسوة ومن المرارة، سيبقى معك دائمًا مثل لحن جميل، يتردد صداه فى نفسك، ويدفعك دفعًا إلى أن تعيد قراءة «يحيى حقى»؛ لكى تسترجع النغم مرة بعد أخرى، أصبح يحيى حقى منذ دخلت عالمه صديقك مدى العمر، الصديق الذى هو الآن يصدقك دون وعظ ولا افتعال، ودون نظريات ولا فلسفات. هو الآن بالفطرة السليمة وحدها ضميرك الحى، وهو فى كثير من الأحيان أيضًا نفسك اللوامة!

عن نفسى، لا أعرف كم من المرات قرأت فيها «خليها على الله» هذا العمل الفاتن. «وليتنى حقًا أكون قد تعلمت منه كما ينبغى» تلك فى ظاهرها ذكريات متفرقة لا يربط بينها غير شخص راويها العذب. غير أنك بعد أن تفرغ منها تكتشف أن وراء كـل جـزئـيـاتـهـا نـوعـًا من الوحدة والانسجام النادرين. أنت تقرأ فى الجزء الأول مثلًا ذكريات مبعثرة عن مدرسة الحقوق القديمة أيام كان كاتبنا يطلب فيها العلم، تقرأ عن محاولاته المتعثرة لتعلم الخطابة، وهو يتابع مشاهير الخطباء فى كل مكان، تبتسم وأنت تقرأ عن ذلك الخطيب الريفى الساذج الذى كـان يحدث الناس عن بركات فيضان النيل، بينما يصل إلى الأسماع صراخ النسوة فى القرية باكيات محاصيلهن التالفة وجاموسهن الغارق، لأن فـيـضـان ذلك الـعـام كـان عـاليـًا اكـتـسـح الـقـرية وأكل أرضـهـا وأتلف محاصيلها. ولكن قبل أن تتحول البسمة إلى سخرية يردك يحيى حقى إلى الحس الإنسانى الصافى حين يقـول: «إن يكن قلبى قد رق لهم، فقد رق رقة أشد لهذا الخطيب الساذج». وستتسع ابتسامتك أيضًا حين تتابع مؤلفنا بعـد التخرج وهو يحاول أن يشق طريقه فى المحاماة، إذ يحدثك عن السماسرة الذين يتحايلون لاصطياد الزبائن للمحامين، ويحدثك عن قـضـايا النصب ويحكى لك عن الريفى الساذج المظهر الذى يستوقف قاهريًا مثقفًا ويبيعه زجاجة «كينا» محكمة الإغلاق والتغليف بنصف ثمنهـا، وبعد أن يختفى البائع يكتشف المشـتـرى أن الزجاجة فارغة، ولكنك قبل أن تتعاطف مع هذا المخدوع ينبهك يحيى حقى إلى أن الضحية فى قضايا النصب أثقل ذنبًا دائمًا من النصاب.

فهو شخص لديه الاستعداد للسرقة، ولا يريد أن يدفع الثمن الحلال. إن يكن النصاب قد سرق مبلغًا فالضحية كان على استعداد لأن يسرق مبلغًا أكبر. ويقول لك يحيى حقى: و«الغريب أن الرجل الفاضل هو الذى يجرى فيفضح السر ويطالب بمعاقبة من ضحك عليه!». يندهش كاتبنا لذلك، ولكن قليلين منا فى واقع الأمـر من نظروا إلى حكايات النصب من هذه الزاوية. وبعـد أن تـتـأمـل فى ذلك وغـيـره وأنت تـقـرأ عـن قـضـايا النصب ستضحك من كل قلبك على القاضى الذى اختلطت أمـامـه مـلـفـات القضايا فحكم على متهم بسرقة «وزة» على أنه حائز قطعة حشيش فى قضية أخرى، ثم لما جاء دور الحشاش رفض أن يحاكمه القاضى بتهمة سرقة «الوزة» وعقـوبـتـهـا أخف؛ لأنه معاذ الله أن يكون لصًا «وأكـون دنى أسـرق وزة؟!.. لـيـه مش لاقى أكل.. أنا صـحـيـح مضبوط بالحشيش وقسمتى كده!». 

ولكن وسط كل تلك الحكايات الطريفة عن القضايا وعن المحاكم، تتوهج- أكـاد أقـول كـالجمرة- قضية مختلفة تمامًا رآها يحيى حقى، حكاية فهمى النجار، ذلك الحرفى المصرى البسيط الذى حـوكـم مع أقطاب الوفـد بعـد مـقـتـل السـردار السيـر «لى سـتـاك» فى سنة ١٩٢٤. قارئ التاريخ يعرف عن محاكمة ماهر والنقراشى فى تلك القضية التى صنعت منهما فيما بعد نجمين فى السياسة ثم رئيسين للوزارة يراهما أديبنا مع غيرهما من المتهمين فى قفص الاتهام، لكنه يتوقف عند محمد فهمى النجار، الوحيد الذى حكم عليه بالإعدام شنقًا بعد تبرئة الجميع: «القاعة تغص حتى تكاد تختنق فى هذه الساعة الرهيبة بالمثقفين أصدقاء الساسة المثقفين يحتلون المقاعد والممرات. فلم يكـد «كيرشو» القاضى الإنجليزى ينطق بالحكم حتى هبوا جميعًا يصرخون ويهللون ويصفقون ويهتفون.. بعضهم يقبل بعضًا، غرقوا جميعًا فى أحضان بعض، بل بدأ بعضهم يرقص رقصًا بلديًا مادًا ذراعيه مطرقعًا بأصابعه، هازًا كرشه المتدلى.. ونظرى مثبت على وجـه مـحـمـد فـهـمى، ابن البلد، الذى حكم عليه بالإعدام من أجل القضية الوطنية ذاتها الموجهة لزملائه.. لـم يكـلـمـه واحـد من أولاد البلد فى الصف الأول، فهم مشغولون بأنفسهم، ولا واحد من شركائه الساسة المثقفين الجالسين وراءه، بل كفوفهم تمتد فوق رأسه لمصافحة الأصدقاء المباركين.. لم يكـلـمـه واحـد مـن الجـمـهـور؛ لأنه منشـغل بالرقص والـضـحك والهتاف..». 

تلك لقطة حزينة وموجعة تختلف تمامًا عما سبق، لكنها فى الحقيقة تكمله ولا تتناقض مـعـه، كـمـا أن الحكايات الأخـرى، الطريفـة والساخرة، تعديك فى نهاية الأمر بالشجن نفسه الذى تثيره فى داخلك هذه القصة الحزينة، ترى من هو الناقد الذى قال إن الكوميديا الحقة أشد حزنًا من المأساة..؟ ليس ذلك هنا سؤالًا خارج الموضوع، بل هو صلب الموضوع. لأن الفكاهة عند يحيى حقى وهى بعيدة تمامًا عن الفكاهة السوداء المريرة تحرك فى داخلك قلقًا ما، وتردك بعد الابتسام أو الضحك إلى ذلك النوع من الحزن الشفيف الذى أسميته بالشجن، وهو شىء لا تجده إلا عند عباقرة كتاب الفكاهة، مثل الجاحظ أو موليير. وواقع الأمر هو أن التراجيديا على كل ما فيها من دموع وأحزان، تطهر النفس بما تثيره من مشاعر الشفقة والخوف «إذا ما استخدمنا تعبيرات أكبر النقاد!». فأنت تتحرك مع المأساة فى عالم كله سمو وجلال وترى سقوط شخصیات عظيمة بسبب أخطاء جسيمة. وهذا يثرى تجربتك وحسك الإنسانى بكل تأكيد، ولكنه لا يمكن أن يكون قريبًا من نفسك كـمـا هـو الحـال وأنت فى عـالـم الكـومـيـديا أو الفكاهة التى تجعلك تضحك من نقائص البشر العاديين، أمثالى وأمثالك، ومن هنا فهى لا تطهر ولا تريح، بل ترسخ الشعور بالذنب والتقصير، وربما تدفعنا إلى أن نكون أفضل. وبالطبع فإن الحديث هنا عن الكوميديا بمعنى واسع وفضفاض لا يقصرها على المسرح، بل يمد نطاقها لتشمل أعمالًا أدبية عظيمة، مثل أعمال الجاحظ أو يحيى حقى. وأنت حين تتابع قراءة «خليها على الله» سـتـجـد أيضًا أن يحيى حقى ينفرد بشىء آخـر لا تجده عند نظرائه من كـتـاب الفكاهة العظام، وهو تلك المقدرة على أن يضـفـر فى نسيج العمل، مواقف بالغة الجد، مثل مـوقف فـهـمى النجار، لا مثيل لما تصيب به النفس من ألم، بل وخـجل من النفس، لأننا نرتكب فى حياتنا تلك الخطايا نفسها: اللامبالاة بألم آخرين، والكيل بمكيالين فى القضية الواحدة، والتناقض الكبير فى حياتنا وسلوكنا بين ما نعلنه من شعارات سامية، أخلاقية «ووطنية!» وبين ما نمارسه فى حياتنا بالفعل من سلوك عملى وأرضى «وأنانى فى كثير من الأحيان!».

يحيى حقى فى روما

وانظر على سبيل المثال لا الحصر فى «خليها على الله» وسط كل الحكايات الضاحكة عن الصعيد وعاداته، وعن المجاذيب وأدعـيـاء الكرامات، وعن مـدرسـة تعليـم الحـمـيـر المشى وطبـقـات الحـمـيـر وسلوكها.. انظر إلى مواقف من قبيل تعذيب الحيوانات فى السيرك وسفح دمائها، أو حرق الحكومة قطن الفلاحين الزائد عـمَّـا قررت الوزارة زراعـتـه فـى الزمـام، أو مـوقف الطبيب الذى رفض أن يـعـالج مـريـضـه الفلاح وهـو يتلوى من ألم من احـتـبـاس الـبـول؛ لأنه لا يملك «الريال» المطلوب «أيامها!».

تلك صدمات كهربائية حقًا وسط الكتاب البالغ الإمتاع والطرافة. وعبقرية يحيى الفعلية هى أن تلك المواقف القمم لا تنبو عن سياق العمل ولا تخل بروحه المرحة العامة، وإن تكن هى فى رأيى مـقـصـده الأول. ذلك أنك سـتـجـد فى كل المواقف الضاحكـة الأخـرى ذرى صغيرة وصـدمـات قـد تبدو أخف وقـعـًا، لكنهـا تنويعات على لحن واحد: بحث عن إنسانية الإنسان، وغضب مكتوم على كل ما يشوه تلك الإنسانية، ويصيبها بالجمود وتبلد الشعور، ويمنعها عن أن تتجلى بكل صدقها وبراءتها. وهى لا تنبو أيضًا لأنها تنجو من داء آخر فى الكتابة وصـفـه يحيى حقى فى كتابه الجميل «عشق الكلمة» بكلمة «الكلبية». 

ومن البديهى الذى يعرفه كل قارئ أن يحيى حقى ليس كاتبًا فكاهيًا بالمعنى الذى اعـتـدنا أن نسبق به أسماء بعض الكتاب بعبارة «الكاتب الساخر»، فهو لا يحترف الفكاهة، لكنها تنبع عنده بشكل طبيعى لا تكلف فيه. تجدها متواترة وشائعة فى أعمال مثل «خليها على الله» أو «دمعة فابتسامة»، ولكنها مبثوثة أيضًا بشكل تلقائى فى بقية أعماله الجادة. تجدها فى قـصـصـه التى أحبهـا القراء وتعلم منها الكتاب، مثل «قنديل أم هاشم» و«دماء وطين» و«عنتر وجولييت»، وفى دراساته الفذة للشخصيات والمواقف فى كتابى «عطر الأحباب» و«ناس فى الظل»، وتجدها عند يحيى حقى الناقد فى كتب «فجر القصة المصرية» و«عشق الكلمة» و«أنشـودة للبساطة» وغيرها، وهو يؤسس لنقد محوره إيثار الإيجاز والقصد وتجنب الافتعال والادعاء. كما أنك تجدها عند يحيى حقى المؤرخ الاجتماعى فى أعمال مثل «صفحات من تاريخ مصر» أو «حقيبة فى يد مسافر». فنحن فى واقع الأمر فى عالم يحيى حقى مع كاتـب شـامل لا يـقـصـر نشاطه الإبداعى على نوع بعينه، ولكن هى أعمال يكمل بعضها بعضًا بما تهدف إليه فى مجملها من إشاعة القيم الإنسانية فى الأدب وفى الحياة.

والفكاهة عنصر وحيد من عناصر إبداعه المتعدد الجوانب، ولكنها مدخل صالح تمامًا لفهم عالمه الثرى. وقد بدأنا بالإشارة إلى نقيضها، فهى ليست فكاهة «كلبية». وأنا أعرف مثلما يقول يحيى حقى فى مقاله بكتاب «عشق الكلمة» صعوبة إيجاد مرادف عربى لهذه الكلمة اليونانية الأصل، فالكلبية تعنى أشياء كثيرة: السخرية القاسية والتعالى وانعدام التعاطف الإنسانى مع الشخصيات التى يتعامل معها الإنسان فى الحياة أو التى يكتب عنها إن كان أديبًا. إذ يصور الكاتب شخصياته من منطلق الفـهـم الكامل لكل شىء ولكل خلجات النفس فى برود يقـتـرب من عملية التشريح؛ ليطلعنا على ذكائه وقدرته على النفاذ والكشف. وكلمة «الهجاء» لا تحيط بهذه المعانى كلها ولكنى أجدها أقرب وصف للكلبية لما ارتبط به الهجاء فى شعرنا العربى من ترصد الأخطاء وتضخيمها، ولما ينطوى عليه من قسوة غير إنسانية على الخصم. وكم أتمنى ونحن فى معرض الحديث عن أدب يحيى حقى الراقى أن يأتى يوم نحذف فيه من مـقـررات تعليم الأدب فى المدارس قصائد الهـجـاء التى عـجـزت عمرى كله عن تذوق ما فيها من «أدب» يستدعى أن نتعلمها! فلو أننا ألغينا هذه القصائد من مناهج التعليم لجاز لنا أن نعرف أن الخصومة والاختلاف لا يعنيان السب والتجريح، ولا الكذب والادعاء على الخصوم بما ليس فيهم. سيصبح تذوق الأدب وإبداعه أقل كلبية وأكثر قربًا من منهج يحيى حقى فى فهم الحياة والبشر. 

ويتحدث كاتبنا عن الفكاهة التقليدية فى فصل بالغ العمق من کتابه «من باب العشم». يصف نوع الفكاهة التى يرى أنها اندثرت من مجتمعنا، مثل النكت اللفظية. فذات مرة من وقت طويل كان يسير فى الطريق حين استوقفه صاحبه سائلًا «على فين؟» فرد «أنا رايح البوسطة» وقال صاحبه «كده؟ أنا بريد أمشى معاك شوية» ويعلق يحيى حقى «أحسست أقسم لك أن قيدًا انطبق فجأة على قدمى فامتنعت عن السير، وأن دشًا باردًا قد اندلق فوق رأسى صمد له نخاع عظمى من أثر النكتة الباردة، أما هو فميت على روحه من شدة الضحك والإعجاب بخفة دمه وسرعة بديهته». أما الآفة الثانية التى كانت شائعة فهى القافية، وهى لا تكاد تخرج عن التلاعب اللفظى السابق، كأن يختار المتنافسان موضوعًا واحدًا هو أسماء البلاد ويقول أحدهما للآخر «أنا مسافر لبنها أما أبوك وجدك- إشمعنى؟ لطوخ ها ها ها». ويرى يحيى حقى أن من علائم رقينا أن الناس أصبحت لا تطيق النكات اللفظية ولا القافية، تلك النكات التى تعتمد مرة أخرى على الهجاء وافتعال الذكاء وتصدر عن حس غليظ لدى مبتدعها ولدى من يضحك لها على السواء. ولكم أذكر كلمات يحيى حقى عندما أشاهد الكثير من أعمال مسرحنا المسمى بالفكاهى، وأسأل نفسى إن كنا قد تخلصنا حقًا من تلك النكات اللفظية؟

غير أنى أعرف أن المدرسة التى أسس لها يحيى حقى فى أدبنا الحديث فى ابتداع الفكاهة وتذوقها هى النقيض من ذلك تمامًا. فهى فكاهة النقد المبنى على المفارقة والمشرب بروح التعاطف الإنسانى «فلنذكر خطبة الفيضان مثلًا». وهى تصوير عيوبنا الاجتماعية من منطلق الإشفاق والحب، لا بلسان السخرية والهجاء. هى دعابة الأدب الحانى الذى يأخذ بيد ولده ليقول له هذا خطأ فلا تفعله مرة أخرى. لا سخرية المدرس القاسى من التلميذ الضعيف. الأولى تفيد والثانية تسحق.

وقد لا تكون كل العيوب التى رصدها يحيى حقى فى مجتمعنا وفى شخصياتنا قد اندثرت بفضل ما كتب «بل ولا كل العيوب التى رصدها الجاحظ من قبله». ولكن كيف يرتقى الإحساس العام وكيف ننفر من القبح واختلال القيم وتبلد الشعور إلا أن صورتها لنا تلك الأقلام العبقرية بقدرتها الفائقة على العرض أولًا وعلى النفاذ إلى قلب القارئ ثانيًا؟، كيف نعرف بدون أن نقرأ يحيى حقى أن من بين ما نألفه فى حياتنا العصرية من مظاهر نراها عادية تمامًا إنما هى العار بذاته؟ وها أنا أنقل من الذاكرة من كتبه دون ترتيب خاص البعض من تلك المظاهر التى توقف عندها كيما ينبهنا: سخرية بعض الصحف فى عناوينها من المآسى الإنسانية إذ تكتب عن جريمة قتل مؤلمة «انتحر روميو بعد أن أطلق الرصاص على جولييت».. أو كتابة أسماء المتهمين فى الجرائم من المطبقات الشعبية ثلاثيًا ورباعيًا فى بعض الأحيان، بينما تقتصر الإشارة إلى نظرائهم من الطبقات الأرقى على صفات مجهلة مثل «موظف كبير يقتل زوجته.. أو مهندس يعتدى على.. إلخ» وكأن حماية سمعة الناس من التشويه رهن بوضعهم الاجتماعى.. أو اختفاء «الرفق بالحيوان» مع اختفاء السيدة الإنجليزية التى كانت تجوب الشوارع لمنع الإساءة إلى الحيوانات.. أو أن ترى أسرة ميسورة الحال تتعمد أن تلبس خادمتها الصغيرة ثيابًا مهلهلة لكى يفرق الناس بينها وبين أطفال الأسرة.. أو أن تسمع أمًا تقول أمام ابنها الصغير إنه جاء من قبيل الخطأ؛ لأنها كانت قد اعتزمت التوقف عن الإنجاب، دون أن تدرك ما تحدثه تلك العبارة فى نفس طفلها.. إلخ.. إلخ.. عشرات من المواقف التى تبدو صغيرة ومألوفة، والتى لا نتوقف أمامها كثيرًا، ولكن عين يحيى حقى الفاحصة تلتقطها وقلمه القدير يفرضها علينا بكل قوة لكى يقول لنا يا أولادى هذا خطأ. فلعلنا نستجيب؟

وأنا أشعر بالكثير من الأمل حين أرى رواج الطبعات الشعبية من أعمال يحيى حقى مثل «خليها على الله» و«عطر الأحباب» وغيرهما. أعرف أن ذلك يعنى أن رسالة يحيى حقى الإنسانية ستصل إلينا جميعًا. ربما فى شىء من البطء، ولكن بكل قدرتها على التأثير. أثق أنها ستساعد على أن تكون حياتنا أفضل حين تختفى منها تلك الأشياء التى قال إنه يكرهها كل الكره «القبح والدمامة وفساد الذوق وثقل الظل وانعدام الحياء».

لقد أعلنت منذ البداية أنى أهاب الكتابة عن يحيى حقى. أعرف أن أى مقال لا يمكن أن يحيط بعالمه أو أن يقدم للقارئ جوهره النقى. وربما كان ما هو أفضل من كتابة المقالات بكثير ذلك الجهد الذى بذله الناقد الكبير الأستاذ فؤاد دوارة لتجميع أعمال يحيى حقى وتبويبها لتكون فى متناول جمهوره. فذلك جهد حقيقى وملموس يتجاوز أى قدرة على الإشادة به. ولكنى أعتقد غير مبالغ أن فؤاد دوارة قد حصل على مكافأته الحقيقية برؤيته تلك الأعمال المجموعة بالصورة المشرفة التى صدرت بها عن هيئة الكتاب. أقول ذلك لما أعرفه عن حبه وتقديره لكاتبنا الكبير.

ونحن فى ذلك جميعًا معه. فمصر كلها تبادل يحيى حقى حبًا بحب وتذكره فى عيد ميلاده يوم ٧ يناير.