رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

روح أم كلثوم فى «ترند الوديدى»

قبل عدة أيام كتب شاب لطيف على صفحته الشخصية على موقع «فيسبوك» جملة عبّر فيها عن استمتاعه بغناء المطربة الشابة دينا الوديدى، ويبدو أن حالته المزاجية كانت فى مساحة بعيدة عن المزاج المصرى العام، أو أنه كان أحد الحاضرين فى حفلها بمهرجان القلعة، فقارن بينها وبين السيدة أم كلثوم، وكتب يقول «مش عايز أبالغ بس دينا الوديدى أعظم من أم كلثوم نسبيًا».

واضح من العبارة أنه من محبى غناء السيدة أم كلثوم، أو على الأقل ممن يعرفون قدر «الست» جيدًا، ولكن حالته المزاجية نتيجة وجوده فى المسرح، أو نتيجة تعرضه لجرعة مكثفة من أغانى دينا الوديدى، سافرت به إلى مساحة من النشوة، فدفعته إلى كتابة وجهة نظره تلك.

إلى هنا والأمر طبيعى، بل ووارد جدًا، ومعتاد ومتكرر، فكلنا يمر بهذه الحالة التى يفضل فيها سماع أغانى مطرب أو مطربة ما فى لحظة يكون فيها هذا المطرب أو هذه المطربة هو الصوت الوحيد المعبر عن حالته النفسية أو العاطفية، وهى الحالة التى يمكن أن تتغير من وقت إلى آخر، حسب ساعات اليوم، دون تنبيه أو إنذار.. حالة مزاجية طبيعية، وعادية، فالبعض مثلًا يفضل سماع فيروز فى ساعات الصباح، بينما يفضل آخرون بداية اليوم بخفة صوت محمد قنديل، أو موسيقى فوزى، فيما ينفرد عبدالحليم حافظ بساعات العصارى، يمكن أن يشاركه عبدالوهاب أو وردة، لتبدأ أم كلثوم السهرة، وهناك أوقات يكون فيها عدوية أو عبدالباسط حمودة هو الصوت الوحيد الذى تحلو السهرة معه.. وقس على ذلك عشرات الأصوات العربية وغير العربية، بل إن كثيرين، وأنا واحد منهم، يقضون ساعات كثيرة فى التقلب بين ألحان موسيقار ما، دون تمييز لمطرب، أو مؤلف، وكثيرًا ما قضيت سهرات طويلة فى صحبة موسيقى بليغ حمدى، أو رياض السنباطى، أو فى التنقيب عن روائع عبدالعظيم عبدالحق أو محمود الشريف.

الطريف فى الأمر أن هذا الشاب لم يكتب رأيه باعتباره حكمًا قاطعًا جامعًا مانعًا، ولم تغلبه الحالة المزاجية، أو لم يستسلم لها، فقال لك «مش عايز أبالغ»، لأنه يعرف أنه «بيبالغ»، ولأنه يعرف أيضًا أن هذه المبالغة فى غير محلها، ألحق حكمه «المتهور» بكلمة كان يظن أنها سوف تغفر له ما تقدم من «ذنبه»، فقال لك «نسبيًا».. وأغلب الظن أنه لم يكن يتوقع هذا الكم من الردود والتعليقات على ما كتب، لكن «عينك ما تشوف إلا النور»، فلم تمض ساعات حتى تحول أخينا إلى «ترند»، وانهالت على ما كتبه المشاركات والتعليقات الساخرة، وصلت فى بعض الحالات إلى السب واللعن والتحسر على زمن الفن الجميل، دون أن يفهم أحد هؤلاء الذين علقوا عليه لماذا كتب «مش عايز أبالغ» ولا «نسبيًا»؟، ولا حاول، ولا فكر أن يحاول.. على أن أسوأ ما قرأت من تعليقات كانت تلك التى تعبر عن حالة لا أعرف كيف تسربت إلى محبى أم كلثوم، خصوصًا تلك التى كتب أصحابها عبارات تتعلق بملابس دينا الوديدى، وما تكشفه، أو تظهره، رغم أنها ملابس بسيطة، مناسبة للحفل، ولا تكشف شيئًا، وليس بها ما يستدعى مثل تلك التعليقات، وهى فى رأيى تعليقات أقل ما توصف به أنها حقيرة، ومنحطة.. هى ومحبة السيدة أم كلثوم والعدم سواء.. فلم يعرف أحد عنها أنها غضبت من نقد، أو سبت أحدًا لمجرد أنه لم يعجب بغنائها، أو لم تستهوه أغنياتها، بل إن أغلب ما تداوله من أسعدهم الحظ بالاقتراب من الست أنها كانت مصنع قفشات متحرك، لا تتوقف عن السخرية والضحك، وصناعة البهجة طوال الوقت، وفى كل المواقف. واللافت فيما حدث أن هذا الشاب كان أكثر تعبيرًا عن روح أم كلثوم المرحة فى ردوده على التعليقات، فاتسمت ردوده بخفة وجمال روحٍ متسامحة، ولطيفة، أكثر من قطيع المتشنجين المتعصبين لكل شىء، وأى شىء، والذين تحركهم شهوة السب والتطاول على أى شىء وكل شىء، نتيجة للوقوع تحت سطوة المخدر، أو تصورات خفة الدم، أو الفراغ.

كان الولد لطيفًا فى التعبير عن شعوره بعد حفل استمتع به، مستندًا إلى حقيقة بسيطة مفادها أن الاستماع للغناء حالة مزاجية، لا يدرك أسرارها أحد، وكانت سماجة الردود والتعليقات تعبيرًا عن جهل بتلك الحقيقة البسيطة التى تستعصى على فهم أسرى الحبوب المنشطة لغدة الغلظة، ومحفزات العنف والسباب. وكانت ردوده على تلك التعليقات، وسخريته منها، ومما كتبه، أقرب إلى روح السيدة أم كلثوم.

ربما كانت انتفاضة المجتمع الأزرق للدفاع عن كوكب الشرق فى مواجهة رأى شاب غلبته لحظة تهور مؤشر جيد على أن ذائقتنا الغنائية ما زالت بخير، وما زالت تحتفظ للست بمكانتها التى لا تقبل المشاركة، إلا أن ما صاحب هذه الانتفاضة من ردود وتعليقات همجية ومتشنجة ينبئ بأزمة اجتماعية تستحق منا التوقف أمامها، والبحث فى أسبابها.

بالمناسبة.. أنا بحب دينا الوديدى.. «نسبيًا».