رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفرمة

منذ أن تخرجت في أكاديمية الشرطة عام 1977، لم أدخلها إلا ثلاث مرات، الأولي كانت لحضور مؤتمر الشرطة العصرية لمصر سنة 2000، وقتها في عام 1982.

والثانية لحضور جلسة إجرائية لمجلس تأديب ضباط الشرطة في أواخر سنة 1998، والثالثة كانت في 2003، لحضور جلسة فض المنازعات الإجرائية بسبب صرف قيمة البدل النقدي للإجازات.. وقتها كانت كلية الشرطة في ضاحية العباسية الراقية.  

الآن تحولت إدارات متعددة، منها لجان فض المنازعات التي تنشأ بين وزارة الداخلية وخصومها، وقد جعلتنا الوزارة، ونحن أبناؤها، من خصومها، عندما ترفض بإيحاء من الحكومة أن تصرف بعض مستحقاتنا المالية إلا بعد اللجوء للقضاء، ورفع دعاوي أمام المحاكم الإدارية، وهو ما كان سببًا لدخولي في المرة الأخيرة أمام لجنة فض المنازعات.

وقتها كانت اللجنة في المكان الذي كان عنبر ج، حيث كنا ندخل من هذا الباب جريًا ونحن نلهث في أعقاب الطوابير، وقتها كان المكان صاخبًا، وبه ضجيج الطلاب من مختلف المراحل، ومجندون، وضباط، وأصوات الخيول التي تصهل، والكلاب التي تنبح، ولم يكن مسموحًا لنا نحن الطلاب أن نمشي ببطيء بل لا بد من الجري.

المكان أصبح صامتًا كمقبرة، بعد أن انتقلت أكاديمية الشرطة وكلياتها ومعاهدها إلى مكان آخر في أطراف القاهرة الشرقية.

يستقبلك صف من الموظفين، بعيون باردة، متطلعة، أمامهم منضدة رخامية باردة، وبجوارهم وحولهم آلاف الأوراق والدوسيهات، وخلفهم لافتة حديثة "بانر" بالألوان، مكتوب عليها الأوراق المطلوبة من خصوم الوزارة، على كل أشكالهم وأنواعهم، سواء من تم اعتقالهم، أو تعذيبهم، أو طالبي التعويضات، من أبنائها الذين انتهت خدماتهم وتخلفت عنها إصابات جسيمة بسبب عملهم، أو المطالبين بحق من حقوقهم مثل حق الموظف العام في مقابل إجازاته النقدي التي لم يحصل عليها. وهذان الأخيران ساوتهما الوزارة مع خصومها الأساسيين، واللذين وقفوا ضدها ورفعوا السلاح على أبنائها. وجعلتهم يترددون على نفس اللجنة سواسية. 
وقفت، أمام الرخامة الباردة، وأعلنت عن رغبتي لأحدهم، استقبلني ببرود، وأنشأ لي أحدهم ملفًا، بعد أن قدمت له الأوراق، وشرح يملأ بيانات كثيرة، يستمدها من بطاقتي التي قدمتها له. 
كان هناك عامل كبير الحجم والسن بالقرب منهم، يرتدي "يونيفورم"، ويقف أمام آلة ضخمة لفرم الأوراق والمستندات، كان لها فم واسع يشبه الفك السفلي لإنسان مشوه، وكانت بجواره رزم كبيرة من الدوسيهات القديمة المربوطة، عليها تراب ينبئ عن قِدمها، بألوان بنفسجية وزرقاء وبيضاء وخضراء، كان يفك الرباط ويحمل الرزمة، ويدفعها علي مراحل، في فم الماكينة، التي كانت تهدر علي الدوام، لفت نظري طريقة إخراج مخلفاتها، كانت عبارة عن أشرطة رفيعة، شكلت لوحة سريالية جميلة تحتاج إلى متخصص في النقد الفني التشكيلي الحديث، ليفك ألغازها السحرية وأسرار ألوانها واتجاهات الخيوط المرسومة في اللوحة، التي تسربلت بتلك الألوان الرائعة. 
بعد فترة فتح باطن الماكينة، وأخرج قفصًا حديديًا، ممتلئًا بتلك الأشرطة جميلة الشكل، وكانت للقفص عجلات، دفعها العامل أمامه، حتى وصل إلى ركن محاط بألواح الخشب، ورفع الصندوق وسكبه على كومة هائلة من تلك الأشرطة. 
لسبب غامض ومبهم، قارنت بين الملفات التي ينشئها الموظفون، وبين تلك التي يفرمها هذا العامل، لتكون وجبة غذاء لتلك المفرمة الهائلة، ستدخل تلك الملفات في فوهتها ذات يوم، لتخرج فضلات سريالية رائعة وجميلة، ولم أتنبه إلى سؤال الموظف، عندما ناولني إيصالًا به تاريخ الجلسة القادمة، وسألني هامسًا:
- حضرتك ستحضر الجلسة؟
كان يعلم أنني من أسيوط، وأن الأمر يستوجب سفرًا، وتكاليف، وأن مسألة حضوري ليست واجبة، ولا ضرورية، لتصدر اللجنة توصيتها، التي لا تلتزم بها المحاكم، وأخبرني بأنه يمكنني أن أحضر في أي وقت، لاستلام قرار اللجنة، ولا يحتاج الأمر إلا لورقة مالية بسيطة، توفر عليّ عناء الحضور، في موعد محدد، وأنه، أية الموظف، سيتكفل بتجهيز القرار، وقت حضوري، لأضعه في مستندات الدعوى التي سأرفعها، للحصول على حق كفله لنا القانون. 
وقتها توقفت الماكينة عن التهام الملفات القضائية، وأصبح الهمس مسموعًا، فناولته الورقة، وقلت له هامسًا: 
- البركة فيك. 
وأنا خارج، داعبني سؤال سخيف، لم أجد له أي مبرر، وهو ما فائدة حضور لجنة فض المنازعات، طالما قراراتها ليست ملزمة لهيئة المحكمة الموقرة، أم أن الأمر هو مزيد من الروتين نضعه عقبة كئود أمام الناس للحصول على مستحقاتهم. 
ولكن فيما بعد 2011 وثورة جديدة في البلاد تم تعديل قانون الخدمة المدنية، بحيث يصرف للموظفين المقابل تلقائيًا بعد تقاعدهم، وأن يستهلك الموظف كل رصيد إجازاته، حتى لا يطالب الحكومة بمقابل.