رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى تظل أمريكا العظمى.. واشنطن قد تحرق العالم

تحاول أمريكا أن تُشعل العالم، من أجل أن تكون هي الدولة العظمى الوحيدة في الكون.. تدعم أوكرانيا بمال غير محدود وأسلحة حديثة لاستنزاف روسيا، في حرب لم تصل إلى ذروتها بعد.. تؤلب تايوان على الصين، وتأخذ صف تايبيه في مواجهة بكين، حتى لو أدى الأمر إلى اشتعال النيران في مضيق تايوان.

وكذلك تفعل مع كوريا الجنوبية في مواجهة جارتها الشمالية.. الأمر الذي جعل من وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، يفرض وجوده على الساحة السياسية في العالم حتى الآن، بسبب آرائه الجريئة، التي وصلت حد قوله، إنه في غياب زعيم عظيم لبلاده، فقد دفعت الولايات المتحدة العالم إلى حافة الحرب، في أوكرانيا وتايوان، وأكد لصحيفة (وول ستريت جورنال) أن واشنطن رفضت الدبلوماسية التقليدية، في وقت كان يمكن لكييف أن تتخلى عن بعض مطالبها الإقليمية لإنهاء الصراع مع روسيا، ولكنا (أصبحنا ـ أي أمريكا ـ على حافة الحرب مع روسيا والصين، بشأن قضايا أنشأناها جزئيًا، دون أي فكرة عن كيفية انتهاء هذا الأمر، أو ما يفترض أن يؤدي إليه)، نحن نفتقر إلى القيادة الحكيمة، وكنا السبب فيما يجري الآن.

كيسنجر، البالغ من العمر تسعة وتسعين عامًا، شرح بالتفصيل دور الغرب في الصراع الأوكراني، في كتاب صدر مؤخرًا عن قادة بارزين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، (القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية) (Leadership: Six Studies in World Strategy)، عن دار (بنجوين) في 528 صفحة.

وصف قرار روسيا بإرسال قوات إلى أوكرانيا في فبراير الماضي، بأنه مدفوع بأمنها الخاص، لأن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، سينقل أسلحة الحلف إلى مسافة 480 كيلومترًا من موسكو..  وعلى العكس من ذلك، فإن وقوع أوكرانيا بالكامل تحت النفوذ الروسي، لن يفعل شيئًا يُذكر (لتهدئة المخاوف الأوروبية التاريخية من الهيمنة الروسية)، وكان ينبغي على الدبلوماسيين في كييف وواشنطن موازنة هذه المخاوف، واصفًا الصراع الحالي في أوكرانيا، بأنه (ثمرة لحوار استراتيجي فاشل).

وتمسك كيسنجر بإصراره على أن الغرب كان ينبغي أن يأخذ مطالب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الأمنية على محمل الجد، ورفض الإشارة إلى أن أوكرانيا ستُقبل يومًا ما في حلف شمال الأطلسي، كما حدث سابقًا مع تركيا.

في الفترة التي سبقت عمليتها العسكرية في أوكرانيا، قدمت روسيا للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، الخطوط العريضة المكتوبة لمخاوفها الأمنية، والتي رفضها كلا الطرفين المستقبلين لها.. كيسنجر، الذي عقد في أواخر 1960، مفاوضات مكثفة مع الشيوعيين الفيتناميين، حتى عندما شن الجيش الأمريكي حربًا ضدهم، قال إن القادة الأمريكيين المعاصرين يميلون إلى النظر إلى الدبلوماسية على أنها (علاقات شخصية مع الخصم).

وفي الكلمات التي أعادت صياغتها صحيفة (وول ستريت جورنال)، (تميل إلى النظر إلى المفاوضات من الناحية التبشيرية، بدلًا من المصطلحات النفسية، السعي إلى تحويل أو إدانة محاوريهم بدلًا من اختراق تفكيرهم).. وبدلًا من ذلك، رأى كيسنجر، أن الولايات المتحدة لا بد أن تسعى إلى (التوازن) بينها وبين روسيا والصين، وليس الرهان على مغالبتهما.. وهذا المصطلح يشير إلى (نوع من توازن القوى، مع قبول شرعية القيم المتعارضة في بعض الأحيان)، لأنه إذا كنت تعتقد (أن النتيجة النهائية لجهودك يجب أن تكون فرض قيمك، فأعتقد أن التوازن غير ممكن).

واعتبر كيسنجر أن توسع الناتو كان يجب أن يتوقف عند بولندا، وكان على أوكرانيا أن تلعب دورًا حياديًا كفنلندا، في العلاقات بين روسيا والغرب، (أعتبر أن بولندا وجميع البلدان التي كانت تقليديًا جزءًا من تاريخ الغرب، يجب أن تكون أعضاء في الناتو.. وفيما يتعلق بأوكرانيا، فقد أيدت أن تلعب دورًا شبيهًا بدور فنلندا).

لقد كان من الخطأ، من جانب الناتو، إعطاء إشارات لأوكرانيا حول إمكانية انضمامها للناتو، وأن المخاوف الأمنية التي عبر عنها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يجب أن تؤخذ على محمل الجد، خصوصًا أن أوكرانيا تمثل مجموعة من الأراضي التي تنجذب نحو روسيا، وتعتبرها روسيا أراضيها، على الرغم من أن (بعض الأوكرانيين) لا يوافقون على ذلك، وقد تغير الوضع نتيجة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

وإلى وكالة (بلومبرج)، يتحدث هنري كيسنجر عن أن المواجهات المستمرة بين واشنطن وبكين لن تساعد في منع (هيمنة) الصين وتطبيع العلاقات.. وبينما حذر من أن الصين لا ينبغي أن تصبح قوة عالمية مهيمنة، إلا أنه أشار إلى ضرورة ألا يسمح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن تتدخل اعتبارات السياسة الداخلية في أهمية فهم ديمومة الصين.

لقد تأثر بايدن والإدارات السابقة كثيرًا بالجوانب المحلية في نظرتهم إلى الصين.. من المهم بالطبع منع الهيمنة الصينية أو أي دولة أخرى، لكن ليس هذا أمرًا يمكن تحقيقه من خلال المواجهات التي لا نهاية لها.. لأن العداء المتزايد في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، يهدد بالتسبب في (كارثة عالمية مماثلة للحرب العالمية الأولى)، حتى لو اعتبرت الولايات المتحدة الصين (التحدي الأكثر جدية) للنظام العالمي.

تصعيد الصراع يمكن أن يؤدي إلى الموت والدمار، على نطاق يتجاوز الحرب العالمية الثانية.. هكذا يعتقد عالم السياسة الأمريكي، الباحث في العلاقات الدولية، جون ميرشايمر، الذي أصدر تحذيرًا صارخًا للغرب، موقنًا أن مخاطر (التصعيد الكارثي) في أوكرانيا، لم يتم تقديرها بالقدر الكافي، إن الولايات المتحدة قد تصبح متورطة بشكل مباشر في القتال.. وفي مقال له، نشرته مجلة (فورين أفيرز)، كتب، أن كلًا من الولايات المتحدة وروسيا الآن (ملتزمتان بشدة بكسب الحرب)، ربما بأي وسيلة ضرورية.. وفي حين أن قلة من الناس يتوقعون أن الولايات المتحدة قد تصبح متورطة بشكل مباشر في القتال، فإن ميرشايمر يرى بأنها قد تفعل ذلك (إذا كانت يائسة من الفوز أو لمنع أوكرانيا من الخسارة)، في الوقت الذي يحذر من أن روسيا قد تستخدم الأسلحة النووية إذا (واجهت هزيمة وشيكة)، وهو وضع يمكن أن يتكشف بسهولة، إذا تم في الواقع سحب القوات الأمريكية مباشرة إلى القتال، وبالتالي، فإن خطر مثل هذا التصعيد الكارثي (أكبر بكثير مما تحمله الحكمة التقليدية).
إن موقف روسيا الرسمي من استخدام الأسلحة النووية، هو أنه لا يجوز استخدامها إلا للدفاع عن النفس، أو عندما يكون وجودها مهددًا.. وعبثًا حاول ميرشايمر، منذ سنوات، لفت الانتباه إلى أن توسع حلف شمال الأطلسي شرقًا، من شأنه أن يستفز روسيا إلى صراع، من شأنه أن يترك أوكرانيا (مدمرة).. حتى إن تحذيراته المتكررة هذه وضعته على (القائمة السوداء) للحكومة الأوكرانية.. ويعتقد أن الصراع في أوكرانيا يمثل بالنسبة للولايات المتحدة فرصة (لإخراج روسيا من صفوف القوى العظمى) وربط سمعتها بالنتيجة، في وقت يرى ميرشماير أن (طموحات) روسيا توسعت أيضًا، منذ أن بدأت هجومها العسكري في فبراير الماضي.. وحتى عشية الحملة العسكرية، كان الرئيس فلاديمير بوتين ملتزمًا بتنفيذ اتفاق مينسك الثاني، الذي كان من شأنه أن يجعل منطقة دونباس جزءًا من الأراضي الأوكرانية.. والآن، يصر ميرشماير على أنه مع سيطرة روسيا على مساحات شاسعة من الأراضي في شرق وجنوب أوكرانيا، فمن غير المرجح أن تعيد كل ذلك، أو حتى معظمه.
وبالنظر إلى المستوى العميق، من مشاركة الولايات المتحدة، من خلال تزويدها بالأسلحة والدعم السياسي، فإن واشنطن (على بعد خطوة قصيرة، من أن يكون جنودها يضغطون على الزناد وطياروها يضغطون على الأزرار) في أوكرانيا.. إذا كان الجيش الأوكراني على وشك الانهيار، وبدت روسيا على وشك الفوز بنصر حاسم، ويمكن للمسئولين الأمريكيين أن يقنعوا أنفسهم، بأن الاستخدام المحدود للقوة سيكون ممكنًا، دون دفع بوتين إلى استخدام الأسلحة النووية.. ومع وجود القوات الأمريكية على الأرض، فإن روسيا سوف ترى بقاءها في خطر، مما يوفر حافزًا قويًا لاستخدام الأسلحة النووية.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.