رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهدات فى بلاد العم سام.. 5 أيام من الدهشة فى واشنطن

واشنطن
واشنطن

كانت أم كلثوم تشدو فى التاكسى المتجه إلى مطار القاهرة: يا ليلة العيد آنستينا، وأصوات التكبيرات تصدح فى المحلات والأحياء الشعبية، حين تصادف موعد رحلتى الأولى إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع العيد، ولم يكن هناك أى مجال للتأجيل، فالرحلة للمشاركة فى برنامج التبادل الثقافى الشهير، «الزائر الدولى للقادة الشباب»، الممول من وزارة الخارجية الأمريكية، تأجلت لأزيد من عامين بسبب تداعيات «كوفيد ١٩» الضيف الثقيل الذى اجتاح العالم وعطّل كل شىء. 

تركز البرنامج، الذى كنت جزءًا منه، حول حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة، وهم شريحة مهمة فى العالم، تقدر بنحو ١٥٪ من نسبة سكان العالم، أى مليار واحد من أصل ٧ مليارات نسمة، وتتواجد نسبة ٨٠٪ منهم فى البلدان النامية، حسب تقديرات الأمم المتحدة، وجاء البرنامج بعنوان: «حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة.. تكافؤ الفرص للجميع».

فى كل مرة أسافر بالطائرة أدعو الله أن يكون المطار الذى سوف يستقبلنى مريحًا ويعمل بكفاءة عالية مثل مطارنا الدولى شرق القاهرة. لكن هذه المرة لم ألق بالًا لهذا الهاجس، لأن الوجهة كانت واشنطن، العاصمة الأقوى والأجمل فى العالم، أو هكذا تصورت.

حين تحركت الطائرة جاء مضيف شاب لا أتذكر اسمه، ولكننى أتذكر الشبه الكبير بينه وبين الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، ليقول إنه فى الخدمة حال احتجت أى شىء، وأنه يتمنى أن تكون تجربتى الأولى مع الخطوط الجوية الفرنسية مريحة، وحين دققت النظر فى وجهه، ضحك بقوله: أعرف أننى أشبهه كثيرًا!

الحماس الشديد لاستكشاف أمريكا، والتخلص من قيود الجائحة العالمية حرمنى من النوم طوال الرحلة إلى محطة الترانزيت فى مطار شارل ديجول، حيث مرت الساعات طويلة قبل الانطلاق إلى الوجهة المنشودة، التى طال انتظارها لما يزيد على العامين.

فوق المحيط الأطلسى تذكرت رفاق الطفولة الذين قرأت عنهم فى مكتبة مدرستنا الإعدادية؛ خوان سباستيان إلكانو، وجيمس كوك، وكريستوفر كولومبوس، وأمريكو فسبوتشى، وكيف واجهوا المخاطر الجسام لاستكشاف طرق وأراضٍ جديدة، وهى رحلات ومغامرات شديدة الصعوبة لا تقارن برحلة الطائرة المريحة والمكيفة.. استشعرت التقزم أمام هؤلاء؛ ما الذى يمكننى استكشافه بعدهم؟ لكن سرعان ما عدت إلى قناعتى بأن الإنسان يستكشف ما يجهله، وأن استكشاف الأماكن والناس وآرائهم وطريقة عيشهم والكتابة عنهم هو أكثر ما يستهوينى. 

حين وطأت قدماى الأراضى الأمريكية لأول لحظة شعرت بحنين بالغ إلى القاهرة وإلى بلدتى الصغيرة فى صعيد مصر، واحتفالات العيد التى فوّتها هذا العام لأول مرة منذ ما يزيد على ٣٠ عامًا، وبينما أنا غارق فى هذه الأفكار والمشاعر وجدت بانتظارى شابًا من أصول إفريقية على وجهه ابتسامة عريضة وبلكنة أعجمية قال: عيد مبارك، ليصطحبنى بعد ذلك إلى موظف الجوازات.

كثير من الأصدقاء الذين زاروا الولايات المتحدة قالوا إننى سأضطر إلى الانتظار قرابة الساعة فى سين وجيم قبل الخروج من المطار، لكن الأمور سارت بشكل سلس وفى دقائق قليلة، مع عبارة «مرحبًا بك فى الولايات المتحدة»، وكان فى استقبالى وفد المترجمين وأمطار غزيرة أمام مطار واشنطن دالاس الدولى فى مقاطعة كولومبيا.

بعد الوصول إلى الفندق وإجراءات تسجيل الدخول حصلنا على نبذة تعريفية عن البرنامج، وأننا بالمشاركة فيه، سنصبح زملاء الرئيس الراحل محمد أنور السادات، والمرأة الحديدية مارجريت تاتشر، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، كانت بداية مشجعة ألهبت الحماس بشكل أكبر، للانفتاح على خبرات جديدة يمكن أن تفيد مجتمعاتنا المحلية بعد العودة.

فى اللحظة الأولى خارج الفندق الفخم على ناصية شارع ماساتشوستس، بالقرب من كنيسة مارتن لوثر تخترق رائحة الماريجوانا أنفك بشكل يفقدك التركيز فى اللوحة المنتصبة أمام الكنيسة وتحمل شعار «love is love»، لدعم أصحاب الميول الجنسية المغايرة.. وتخطف كلاب الخدمة التى تساعد أصحاب الإعاقة البصرية انتباهك فيما لا تستمع إلى صوت السيارات المارة حولك.
 

المعضلة الكبرى كانت عجزى عن تطبيق المثل الإنجليزى الشهير عن السفر، «عليك أن تتمتع بأنف خنزير حتى تأكل كل شىء».. وكان المطعم الإيرانى الذى يقدم وجبات تشبه إلى حد ما طعامنا بعيدًا، ويستغرق أكثر من ٣٠ دقيقة سيرًا على الأقدام لتناول وجبة الغداء. وظللت طوال الرحلة أشعر بالجوع بسبب عدم استساغتى الطعام الأمريكى.

هنا فى الولايات المتحدة أو الأراضى الجديدة لا يشعر الإنسان بأنه غريب عن المجتمع، فالتنوع العرقى والإثنى فى البلاد أحد أبرز ملامحها، والناس من كل العالم جاءوا واستوطنوا وأنجبوا الأولاد والأحفاد، بشكل يجعل التنوع الحالى صفحة بيضاء للمجتمع الأمريكى، أو على الأقل للذين لا يعرفون شيئًا عن معاناة السود الذين جاءوا من إفريقيا كعبيد، أو السكان الأصليين وعملية التطهير العرقى بحقهم، ثم فترات النضال- التى سوف نتناولها فى الحلقات التالية- قبل أن يصبح الجميع سواسية فى النهاية.

احدى بنايات واشنطن الفاخرة 

الزائر الدولى

أطلقت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية برنامج «الزائر الدولى للقادة» فى العام ١٩٤٠، وهو برنامج تديره وتموله وزارة الخارجية الأمريكية، ويسعى البرنامج لتعزيز التفاهم بين الولايات المتحدة ودول أخرى من خلال زيارات مهنية فى مجالات مختلفة ومتنوعة وتستضيف قادة دول أجنبية حاليين وناشئين، بناء على ترشيح السفارات الأمريكية فى مختلف دول العالم لنحو ٤٥٠٠ مشارك سنويًا.

البرنامج، حسبما تقول الوزارة، يهدف لجمع القادة الشباب من خارج الولايات المتحدة مع نظرائهم فى الداخل الأمريكى، بهدف تكوين شبكات من العلاقات والتعرف على المجتمع الأمريكى من قرب واكتساب خبرات عن النظام والحياة والمؤسسات والشراكات داخل المجتمع، وتفتخر الخارجية الأمريكية، بأن أكثر من ٣٢٠ من رؤساء حكومات ورؤساء دول حاليين وسابقين وكثير من قادة وزعماء العالم شاركوا فى البرنامج فى مرحلة من حياتهم.

للوهلة الأولى، يمنح هذا التقديم السريع للبرنامج المشاركين حماسًا أكبر من مجرد زيارة الولايات المتحدة والتعرف على المجتمع الأمريكى بتنوعاته وتناقضاته، إضافة للأحكام المسبقة التى أتينا بها إلى هذه الدولة الكبيرة والمؤثرة جدًا فى كل مكان بالعالم، وحتى فى الفضاء، وشيئًا فشيئًا تتضاءل هذه الأحكام مع التعرف على الناس والاستماع إلى آرائهم حول السياسة الخارجية لواشنطن فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وحتى الدور الذى تلعبه فى الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات ذلك على الأوضاع المعيشية ليس لسكان العالم فحسب، بل والتأثيرات التى يعانى منها الأمريكيون أنفسهم.

 

المدهش فى التعرف على الولايات المتحدة، أنها ليست دولة بالمفهوم المركزى لدول المنطقة العربية وإفريقيا وحتى جيراننا الأوروبيين، فهناك ٥٠ ولاية تتمتع بحكم واستقلالية ونظام ضريبى ومحاكم وتشريعات ومجالس محلية تختلف عن غيرها من الولايات، ويجمعها اتحاد فيدرالى يقوده ٤٣٥ نائبًا فى مجلس النواب و١٠٠ نائب فى مجلس الشيوخ، إضافة إلى الرجل الكبير الذى يسكن البيت الأبيض.

العاصمة واشنطن

فى جولة تعريفية بالعاصمة الأمريكية التى تقع عند التقاء نهرى البوتوماك وأناكوستيا، تكتشف أن مبنى الكابيتول الذى يضم مقر مجلسى «النواب» و«الشيوخ» هو المبنى الأعلى فى العاصمة الأمريكية وغير مسموح ببناء أى جسم يرتفع عنه، للدلالة على سيادة الشعب وممثليه.. وفيما بنى «الكابيتول» من الرخام، فإن البيت الأبيض تم بناؤه من الحجر، فى مفارقة ترمز إلى أن السيادة تأتى من الشعب وتتمثل فى نوابه المنتخبين وأن بقاءه أهم من أى مؤسسة أخرى فى البلاد.

المدينة التى جاءت تسميتها تيمنًا بأحد الآباء المؤسسين للدولة الجديدة المستقلة عن بريطانيا العظمى من تصميم المهندس الفرنسى بيان لانفان على طراز مشابه للعاصمة الفرنسية باريس، وتعرضت المدينة للإحراق من قِبل القوات البريطانية، لكنها لملمت جراحها وعادت لتصبح بعد أقل من قرنين عاصمة تتفوق على لندن نفسها. 

وتجذب العاصمة الأمريكية ملايين الزوار الدوليين كل عام، حيث تضم مقرات كبرى لمؤسسات مالية وتعليمية، حيث تضم جامعات جورج واشنطن وجورج تاون و«جالوديت» الفريدة من حيث تاريخها ونشاطها وطلابها.

 

مارتن لوثر كينج الابن

فى متنزه ويست بوتوماك، يقع النصب التذكارى لزعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج الابن، فى واشنطن العاصمة، وخصصت الدولة مساحة ٤ أفدنة يتوسطها تمثال كبير منحوت فى الجرانيت لـ«كينج» للدلالة على صعوبة الحركة التى قادها، وكيف أنه كان كمن ينحت فى الصخر دون استسلام إلى أن برز منه، واستطاع الحديث عن حلمه الذى تحقق بتمكين السود من ممارسة حقوقهم على قدم المساواة مع مواطنيهم، وتكلل بوصول أول أمريكى أسود إلى منصب رئيس الدولة، بانتخاب الرئيس السابق باراك أوباما فى ٢٠٠٨.

النصب التذكاري لـ مارتن لوثر كينج 

جامعة جالوديت

قبل العام ١٨٥٦، كان الصم وضعاف السمع الأمريكيون كما أقرانهم فى العالم؛ يعانون عدم القدرة على التعلم والحصول على الشهادات الجامعية التى تؤهلهم لسوق العمل، وعلى أن يكونوا أشخاصًا مؤثرين فى مجتمعهم، وفى ذلك العام، تبرع عاموس كيندال، الذى كان يشغل منصب مدير عام البريد، بمساحة فدانين من ممتلكاته فى العاصمة لإنشاء مدرسة وسكن لعدد صغير من الصم والمكفوفين، قبل أن يقتصر عمل المدرسة بعد ذلك على الصم.

وتولى إدوارد مينر جالوديت، الذى آمن بحق الصم وضعاف السمع فى التعليم والتطور والترقى فى سلم الحياة والمجتمع، إدارة المدرسة الجديدة التى حملت اسمه فيها بعد، وأصبحت واحدة من الجامعات الكبرى فى العالم، والوحيدة المتخصصة فى تعليم الصم، ورغم أنها بدأت على مساحة صغيرة، وبميزانية متواضعة، أصبحت الجامعة اليوم قبلة الصم من جميع أنحاء العالم للحصول على شهادة جامعية مرموقة تعتمد على لغة الإشارة فى التعليم.

وزيادة فى الاهتمام بهذه الفئة ودعمها على أعلى المستويات، أصبحت جالوديت مخولة بمنح الشهادات الجامعية منذ العام ١٨٦٤، بقانون خاص وقعه الرئيس إبراهام لينكولن، وأصبحت الشهادات التى تصدرها الجامعة موقعة من الرئيس الأمريكى، حيث تم التوقيع على شهادات أول خريجى الجامعة عام ١٨٦٩ من قِبل الرئيس يوليسيس س. غرانت.

قادنا فى الجولة التى أجريناها فى يوم شديد الحرارة، طلاب من الجامعة يشع حديثهم بالحماسة لما وصلوا إليه وحققوه، وثورتهم الاحتجاجية لتسليم مقاليد كل مؤسسات الجامعة للأشخاص الصم، وعدم حاجتهم مرة أخرى لمن يتولى شئونهم، قبل أن نودعهم متجهين إلى أحد فروع مقهى «ستاربكس» الذى يديره ويعمل فيه الصم فقط، وكانت تجربة فريدة وملهمة ولم نواجه أى صعوبات فى التواصل معهم وشراء المشروبات الساخنة والمثلجة.

جامعة جالوديت

كنيسة القديس لوقا

عانى الأمريكيون السود لعقود من التمييز والتهميش والفصل العنصرى، لكن ذلك لم يمنعهم من ممارسة حياتهم وتكوين مجتمعاتهم وبناء كنائسهم الخاصة، ومن أبرزها فى العاصمة واشنطن، كنيسة القديس لوقا الأسقفية، التى قادتنى قدماى إليها صبيحة يوم أحد فيما كنت أبحث عن مطعم أتناول فيه وجبة الغداء قبل الانطلاق إلى جولة سياحية فى العاصمة.

بعد انتهاء قداس الأحد والترانيم الروحانية، وأمام كنيسة التلميذ النجيب للسيد المسيح، تجاذبت أطراف الحديث مع كبار السن الذين تجمعوا أمام بيت الرب، تعرفت منهم على نبذة قصيرة عن تاريخ الكنيسة، وكيف بناها أسلافهم لإقامة الصلوات.. لكن واحدة منهم أمسكت بدفة الحديث حين عرفت أننى مصرى، وتحدثت لقرابة ١٥ دقيقة عن زيارتها أهرامات الجيزة وعظمة الحضارة المصرية، وكم تتمنى لو سنحت لها الفرصة للزيارة مجددًا، فنصحتها بأن تعيدها لترى مصر بوجهها الجديد.

رواد قداس الاحد

مؤسسة سميثسونيان

شعر العالم البريطانى جيمس سيمثون بالحزن الشديد حين رفض والده الاعتراف به، فقرر أن يخلد ذكره، وكانت لديه أموال طائلة، تبرع بها لتأسيس مؤسسة سميثسونيان فى القرن الـ١٩، وبموجب قانون الكونجرس ١٨٤٦، ولدت مؤسسة سميثسونيان، بغرض زيادة ونشر المعرفة.

وتتكون المؤسسة من نحو ١٩ متحفًا، ومعارض، وحديقة الحيوان الوطنية، وتضم ما يقارب ١٣٧ مليون قطعة متنوعة من الحشرات والنيازك والقاطرات والمركبات الفضائية، والبرونز الصينى القديم، والأحفورات القديمة، ووحدة هبوط أبولو على سطح القمر.

وتتمتع العاصمة واشنطن وحدها، بوجود نحو ١٠ متاحف تابعة للمؤسسة، فى الشوارع من الثالث إلى الرابع عشر، بين منطقة الدستور وأجنحة الاستقلال. لكن المفارقة أن جيمس سيمثون لم ينتقل إلى الولايات المتحدة طوال حياته، لكنه كان يؤمن بأن الأراضى الجديدة سيكون لها مستقبل عظيم فى وقت من الأوقات، ولهذا تبرع بإنشاء المؤسسة التى تنتسب إليه حتى الساعة.

قداس الاحد فى كنيسة القديس لوقا

انتهت الأيام الخمسة فى واشنطن العاصمة بلقاء فى مقر وزارة الخارجية الأمريكية تناول الجهود التى تبذلها الحكومة الفيدرالية والشراكة مع المجتمع المدنى والقطاع الخاص لدعم الأشخاص ذوى الإعاقة، وانفتاح الوزارة على التعاون والتشبيك مع المشاركين فى البرنامج بعد العودة إلى مجتمعاتهم المحلية. ركز المشاركون فيه على أن عملية دعم ودمج وتمكين ومناصرة الأشخاص ذوى الإعاقة تراكمية، وتتطلب الوقت والتعاون مع كل المؤسسات لتوفير بيئة تدعم الإتاحة والمساواة للجميع.