رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرحلة الوعى السيئ بأهله

خاض المجتمع بأسره مدنيًا كان أو مؤسسات حكومية أو مبادرات أهلية، حربًا مستنيرة من أجل المساهمة في أعظم أنواع التغيير التي ترتبط بوعى الإنسان الفكري والارتقاء بمستواه الثقافي، ظلت هذه المحاولات ميدانية لزمن طويل يستطيع من خلالها الفرد التعرف على الكثير من المفاهيم والمغالطات التي تعرض لها في مسيرة تنشئته وبناء عقليته، ومن ثم تطبيق بعض الممارسات السلوكية المتربطة بها في مجتمع موازٍ تم تصميمه من أجل ذلك.
في اعتقادى أن الفترة الأولى من بدء تلك الحركات كانت مرحلة هز الأرض أسفل الباطل الذي زُرع في وجدان الفرد، وساهم في طرح ثمرة خوخاء بها الكثير من المشكلات، من خلال استخدام موضوعات ربما تبدو مألوفة ومنطقية حتى وإن نشأنا على خلاف ذلك، ومن بعدها تم التوسع في القضايا المطروحة والتجول هنا وهناك فكريًا وجغرافيًا في مرحلة أشبه بالتطهير والتجريف المشروع للتربة، لتصلح فيما بعد لطرح منتج أكثر جودة مما سبق عهده مشتهى مجتمعيًا.
وساهم في هذا الانتشار مجموعة من الأفراد والشباب قد تأثروا سابقًا لما تعرضوا له من وعى وتصحيح، وكانوا أشبه حينها بما يطلق عليهم المؤثرون وصناع المحتوى الآن على منصات التواصل الاجتماعى، وكان لهم عظيم الأثر في وضع بصمات أكثر نضجًا في مجتمعاتهم المحلية وفي التأثير في أقرانهم والمحيطين بهم، وتزامنت هذه الفترة مع طغيان القوة التكنولوجية وتطورها بكافة أجهزتها ومنصاتها، مما جعل لها مساهمة ويدًا فاعلة في هذه المسيرة نظرًا لإتاحتها مع كافة الأفراد ورواجها، إضافة لوسائطها التي أتاحت نشر زخم كبير من المعلومات؛ وتكرار نشر الرسالة التوعوية ومشاركتها من حين لآخر، والتفاعل معها أيضًا.
وقد نرى للوهلة الأولى أن تلك المنصات قد أفادت حركة ومسيرة الوعي في مرحلة الانتشار التي كانت تعمل على رواج المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالحقوق، إضافة لتصحيح أو إعادة بناء الشخصية التي تم العمل على تحطيمها تربويًا وإشعارها بمستويات متدنية من تقدير الذات وعدم القدرة على فعل أي شيء أو امتلاك أي قدرات أو موارد شخصية، فكان الدعم والتشجيع غيرالمقنن ملازمًا لكل الرسائل التي تعرض له جيل بأكمله عبر كل المنصات، وتأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن أحيانًا، فعلى قدر الإتاحة للمعلومات عبر الوسائل التكنولوجية، ستجد في أبسط حوار مع أي فرد استهلاكًا جائرًا للعديد من المفاهيم الحقوقية والمصطلحات التي ارتبطت بالوعى والتنوير مؤخرًا، وأن الجميع أصبح باحثًا عن حقه وساعيًا لنيله باختلاف الآلية.
وفى مشهد آخر تستطيع بضربة زر أن تتفقد نتائج البحث على كل المنصات التي ستنير بصرك على العديد من الإسهامات والآراء التي تستهلك نفس المعانى والمحتويات على أنها علم ولكنها هوى مصحوب بتعريف لتجربة شخصية لا تمثل غير صاحبها، وسترى بثًا لقدرات ومواهب للأفراد لا تمثل في أغلب الأحيان غير صورة مغلوطة وغير موضوعية عن الذات مصحوبة بترديد مفاهيم عن الثقة وتحديات النجاح التي ليس لها مكان من الإعراب فيما نرى ونسمع.
وعلى قدر السرعة في الوصول اللا مكانى التي وفرتها لزحزحة قوالب ومفاهيم على قدر إنتاجها لقوالب جديدة وتعريفات ما أنزل الله بها من سلطان لا فى علم ولا عُرف ولا تشريع، تحصر من خلالها اختيارات الأفراد لممارسة حقوقهم على مذهب مستخدمى "فيسبوك" تارة وعلى مذهب مستخدمى "توك توك" تارة أخرى، وستجد نفسك أمام حيرة لا تناسب هويتك، بسبب تأويل للمفهوم الواحد لأكثر من عشرين معنى جميعها تقول لك إن هذا الحق الذى يجب أن تتبعه لتنجو، ناهيك عن كم الفساد المفاهيمي حول موضوعات شتى كحرية الرأي والتعبير الذي سحقت كل حقوق الآخرين بل والتشهير بهم، علاوة عن تحريف لمفاهيم ارتبطت بالعمل والإدارة، والروتين والمسئولية، والشغف أو الطموح والنجاح، والشهرة وإرشادات تحقيقهم الاحترافية المضللة التي لا تعمل سوى لمصلحة التمركز حول الذات المفرط التي خلقتها تلك الرسائل، باعتبار أي توجيه هو نابع من كره الآخرين لنجاحك وثقتك اللذين من الممكن أن يكونا نسجًا من خيال ليس إلا، إضافة للتلاعب بالآخرين بحقوق الحدود والخصوصية من وقت لآخر على حسب هواك من يوم لآخر دون توضيح مواقف، مما جعل الحق الذى وجد لتنظيم العلاقات وتسهيلها أداة للعبث بالأفراد والعلاقات بطريقة مفاجئة فتحت علينا نافورة أزمات من العزلة وفقد الثقة وهدم الهوية الشخصية، وتجريد التعاطف والمساندة والمشاعر من فحواها، ومع كل أزمة تفجرها مع الآخرين ستجد رسائل تمنحك تمحورًا أكثر حول ذاتك والثقة في قراراتك وعدم النظر للوراء، وأن إحساسك دائًما هو اليقين، الأمر الذى أفقد الكثير منا لحظات التراجع عن الخطأ وتصحيح ما أمكن من هفوات الماضى وهلُم جرّا من العبث.
ومن هنا يتضح أن استخدام الوعى بواسطة التكنولوجيا على قدر ما كان له تأثير جم بقدراته ووسائطه فى الإتاحة والوصول لكافة الفئات وضمها لحركة التنوير والوعي والتعبير عن توجهاتها حول ما تتلقى من معرفة، على قدر ما أتاح لأفراد ذات فكر مضمحل مسموم أن يضعوا بصمتهم بمغالطة المعانى والمفاهيم وتطبيق وعى جاهل ومحرف من سياقه ومتطرف في ممارسته على حسب كل ميل وهوى، وفرضه على الآخرين بادعاءات كاذبة تناهض الوعي المستنير.
وقد نجد أن ذلك خلق حالة نفور لدى البعض من صغار الشباب المفكرين من النشر الجائر للوعي والشعور بالملل تجاه رسائل الوعى والوجوه الأمر الذي يُصعب مهمة ومسئولية القائمين على العمل التوعوي والتنموي في الواقع، رغم مساعيهم التي لا ينكرها جاحد والثمار التي أتت أكلها لجهودهم، ولكن الوضع الحالي يجعلهم في مرمى أمرين أشق من بعضهما الأول تغيير القوالب والصناديق الفكرية السامة التي تركها الأجداد، والآخر القوالب الجديدة التي خلفها النشر الجائر والتحريف السام الذى يشوه الحقوق والحياة المدنية.
بخاصة في ظل اهتمام الدولة المصرية وسياستها الحالية بأهداف ترمى بالعمل على إعلاء جودة المواطن وخامته الفكرية والثقافية والحضارية، وتعزيز وبناء قدراته، وتمكين البطانة الصالحة ذات الموارد المستدامة، أصبح لزامًا في رأيى أن تتغير سمات الرسائل وأنماط التوجيه وتتعامل بواقعية مع الفرد المعاصر بسلوكه ووعيه المزدحم بالعديد من المعلومات، التى قد يكون أغلبها سمّم وعيه أكثر ما أفاده، وأن نحاول استبدال مرحلة الانتشار التي كان مرحبًا بها بمرحلة من العمل على الحد من تطرف المفاهيم التي انتشرت بالفعل، ووضعها في أطر منظمة ليستهلكها الإنسان بحكمة ورشد تنميه لا تنهيه، تبنيه لا تقصيه.. مرحلة من التقنين لما سبق ورسم حدوده وأطره من خلال مبادرات من الصحوة المفاهيمية، ولا عجب أن هذا سيحتاج إلى جهود بوجود منصات ذات طابع مؤسسي مشترك تستطيع أن تكسب ثقة الأفراد وتعمل على الحصر المستمر والتصحيح الفوري والوصول للجميع، إضافة للبحث المنهجي القائم على طرح احتياجات الفرد اليوم ليفتش باحتراف عن مكنونه، ويضبط طموحه ويوجه كفاءته ويهذب احتياجاته وينصرف بأمامه عما عداه، ويتعايش برفق ممارسًا حقه برفق ونظام دون إخلال بالمنظومة السامية التي بنيت عليها الإنسانية من أجل تحقيق الحضارة الحديثة.