رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاغتراب فى رواية «التساهيل فى نزع الهلاهيل»

عثرت على هذه الرواية بالصدفة ضمن روايات أخرى على الإنترنت، للكاتب الدكتور زين عبدالهادي.. والدكتور زين أكاديمي معروف له دراسات وأبحاث في المكتبات، لفت نظري العنوان «التساهيل في نزع الهلاهيل» وهو عنوان مصري أصيل بكل مفرداته العامية، ولا يترك لك حرية إهمال العمل الذي بين يديك، أو إرجاء قراءته، بل يدفعك دفعا للقراءة، كما أن العنوان يشى بنوع من التمرد المصري الذي طلب تساهيل الله في كل شيء، حتى مجرد نزع الهلاهيل القديمة، كما أنه عنوان صوفي يدفعنا نحو هؤلاء المتصوفين الذين نراهم في الشارع، وربما كان يشى بحالة تمرد على الواقع الفقير وينزع نحو عالم آخر أوسع وأرحب بدلًا من عالم الهلاهيل.

كل هذا دار بخلدي عندما قرأت العنوان والصفحة الأولى التي قادتني بعد يوم كامل إلى الصفحة الأخيرة، رحلة كاملة استغرقتني تماما مع الكاتب المغترب في بلاده وخارجها.

الاغتراب انتشر كظاهرة عامة في الرواية العربية في مطلع السبعينيات، لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية وثقافية وغيرها، وانفتاح دول الخليج بعد انفجار ثروة النفط فيها، فأصبحت سوقا رائجة استوعبت الكثير من العمالة العربية من الدول الفقيرة داخلها، مما أدى لظهور تلك الحالة التي نحن بصددها في كتابات الأدباء العرب، وأبرزها حالة التناقض التي سادت في الواقع المعيش بين ما هو موجود بالفعل وما يجب أن يكون.

وهو ما ظهر من خلال كتابات عدد كبير من الروائيين العرب، نذكر منهم: الطاهر بن جلون، ومحمد ديب، والطاهر وطار، وإدوار الخراط، وجمال الغيطاني، وأحمد الشيخ، ومحمد البساطي، وصبري موسى، وصنع الله إبراهيم، وحمدي البطران، وغادة السمان، وليلى العثمان، ودلال خليفة، وجبرا ابراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وعبدالرحمن مجيد الربيعي، ووليد إخلاصي، وإسماعيل فهد إسماعيل، والدكتور زين عبدالهادي وغيرهم.

هذا التناقض جعل الشخصية الروائية العربية تشعر بالإحباط، والانسحاب للداخل وفقدان التواصل.

ونقف عند إحدى هذه الروايات- على سبيل المثال وليس الحصر-  وهي رواية "التساهيل في نزع الهلاهيل» للدكتور زين عبدالهادي، لكونها واحدة من أهم الروايات العربية التي عبّرت عن هذه الظاهرة. وفيها نجد أن الصراع يدور في وعي الشخصية الرئيسية، بين الرغبة والرفض، الرغبة في الاقتران بالوطن والانتماء إليه، والعودة الى الوطن الأم، مع رفض الممارسات القمعية التي تمارس فيه. فيتمثل محور الرغبة في الأنماط الفعلية لبعض الشخصيات في الرواية، وهو ما عبّر عنه الكاتب في بعض المواقف.

خلال فترة تجنيده كجندي مؤهلات عليا في منطقة سيدي براني الصحراوية الحدودية، وقتها كان لتوه خارجا من تنظيم سياسي اشتراكي يقدس النضال والقومية العربية والحرية، وغيرها من الشعارات التي كان محملا بها، ولم يعرف لماذا أحضروه إلى تلك المنطقة القاحلة التي قضى بها فترة تجنيده في الفترة الحالكة التي كان فيها نزاع مصري ليبي، ساعدته ذكرياته الغرامية مع سوسن حبيبته وسنسن عشيقته على فكرة تحمل تلك المنطقة القاحلة.

يحمل الكاتب معه اغترابه وغرامه إلى المكان الجديد، ويقول الكاتب:
- بعد أذان الفجر بقليل وكان الليل قد بدأ يكتسي دهاناً فضياً يميل إلى الاحمرار، أقبلت العربة فنهضت إلى داخل الملجأ الذي سكنته طوال عام وغيرت ملابسي أما زملائي الذين أتوا معي، فقد فرقتنا أحداث كثيرة وفى النهاية لم يبق سواى و"عادل البحراوي" الذى انتقل لقيادة اللواء منذ أيام قليلة.

أما زكريا فقد قال لي ذات يوم إنه لن يستطيع البقاء في الكتيبة ولو يوما واحدا، وصرّ على أسنانه وهو يردد: "ها اكفر يا أخي"، وقبل انتهاء فترتنا بشهر انتقل لسرية الوقود بعد أن دفع لأحد ضباط صفها خمسين جنيهاً وعمل له إلحاقاً، وحين علم الصول "سلامة" كدّره نهاراً بحاله قبل أن يسمح له بالخروج من الكتيبة، "زكريا شرقاوي" طول بعرض بجمال، لكنه ليس ابن شقاء يحلم بشغل المقاولات.
وبعد يومين مات "زكريا" محترقاً بين براميل السولار والبنزين في عاصفة ليلي.. حتى بعد خروجه من الجيش، وسفره إلى الكويت باحثا عن المال، ولأنه يشعر بأن الكويت ليست موطنا بقدر ما كانت محطة من محطات حياته العديدة، وهي محطة لجمع المال الذي يكفل له فيما بعد في بلده الحصول على شقة وحياة متوسطة نوعا ما، وهي الحياة التي لم تجعله يعيش في مكان واحد، وهو في الكويت يظل الكاتب غريبا، وترسخ لديه الإحساس بالاغتراب. في لحظة وصوله للكويت يقول، وفي عبارة وجيزة ولكنها معبرة، يعبر بوضوح عن اغترابه الذي ترسخ فيه بعبارة:

- "هبطت الطائرة في مطار الكويت، ذلك الهبوط الرخو، قلبي يدق في عنف، لا أحد في انتظاري، المجهول وأنا، أسير على بلاط له بريق، ضحكات مختلطة بصراخ أطفال، نساء سمينات، ورجال يهتزون في ملابسهم اللامعة، أتحسس بنطلوني الجينز المتقرح، هنود وفلبينيون وصعايدة وأمريكان، الصعايدة يسيرون في جماعات لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة أفراد، الجميع يبدأ الركض، الأمريكان هم الذين لا يركضون، ومع ذلك خرج الأمريكان سريعا لا أدري كيف، لاحظت الابتسامات المتبادلة بينهم وبين العساكر والضباط".

أما ما حدث معه في مطار الكويت فهو ما جعله يستشعر مرارة الاغتراب في رحلته إلى الكويت من أولها، فيقول في عبارة دالة على المرارة:

«أشار الضابط لشرطيين، سحباني إلى غرفة داخلية حيث تعرضت لتفتيش ذاتي، حاولت إفهامه أن شحاذا مثلي لا يمكن أن يخفي شيئا داخل ملابسه البسيطة، ولكنه أعطاني قفاه في حدة وتركني لهما، وها أنا بعيدا بمئات الأميال وحيدا هذه المرة أخلع جميع ملابسي دون أن أنطق ودون أن أعترض».

وقد عبّر الكاتب بهذا المشهد عن حالة اغتراب عامة الشعب المصري مما كان يعانيه في الأزمنة الماضية، وما ذكر برواية " اللجنة" لصنع الله إبراهيم، وبطلها الذي لم يعد أمامه إلا أن يأكل نفسه، هنا تشعر الشخصية بالاغتراب نتيجة التناقض السائد في الواقع المعيش بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، الأمر الذي يفقد الشخصية هويتها حتى اسمها المدون في البطاقة الشخصية يفقدون إياه.

الحقيقة الرواية مشوقة، وتحتاج إلى بحث كامل لبيان المناطق التي تطرق إليها الكاتب، وجعلته يحس بمرارة وقسوة هذا الاغتراب، كما تعبر عن مناحي الحياة في مصر وبعض الدول، مما يعكس تعدد ثقافات الكاتب وقدرته على التقاط مناطق مضيئة والتعبير عنها بسلاسة ومقدرة هائلة على السرد، فإنني أكتفي بهذا القدر.