رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا تهاجرى.. لا تهاجر

بالأمس كلمنى أحد الأصدقاء يدعونى لحفل زفاف أخيه الطبيب، أخبرنى بأنه متفوق فى دراسته، ويجرى اتصالات لكى يأخذ هجرة إلى كندا ويذهب مع زوجته للإقامة الدائمة هناك.
اعتذرت له عن عدم الحضور لأننى فى حالة اعتكاف قررتها بكامل اختيارى وقناعتى بأن "البعد عن الناس أكبر مكسب"، بالإضافة إلى أننى لا أطيق صخب حشود البشر فى أى مكان أو لأى سبب كان حتى لو كان من أجل إصلاح الكون.
لم أقل له بالطبع إننى ضد حفلات الزفاف وكل أنواع ودرجات استعراض الفرح والسعادة، فهو لن يقتنع وسوف يشعر بالضيق وأنا لست فى حاجة إلى ذلك، أؤمن بأن الفرح الحقيقى لا يحتاج إلى احتفالات واستعراضات وتقليد الآخرين فى عرض مشاعرهم وعواطفهم.
لكن استوقفنى أن أخاه الطبيب الشاب يقدم طلب هجرة إلى كندا، وهذا أمر أصبح الشباب يقدم عليه من الجنسين ويعتبرونه حلمًا كبيرًا يستحق الفخر.
لا أدرى ما الذى يستحق الفخر؟ هل أن أترك بلدى التى تحتاجنى ومن خيراتها تربيت وتعلمت وكبرت وأطلب هجرة إلى كندا أو أمريكا، هو بالأمر الذى يدعو إلى التباهى؟ أنا لا أعتقد أن "الحلم الأمريكى" أو "الحلم الكندى" أو غيره هو طوق النجاة.
إن طوق النجاة للأفراد وللوطن أن يبقى المصريات والمصريون فى مصر، وأن يردوا الدين فى خدماتهم وعلمهم للشعب الذى ينتمون إليه، هذه ليست كلمات للوطنية التى نغنى لها الأغانى، إنها فلسفة للعيش ومبادئ ترسم المصير.
إن كندا أو غيرها من البلاد الأكثر تقدمًا من مصر تبدو مغرية ومشجعة لكننى دائمًا أتساءل، لو مصر بلد محاصر بالأزمات والمشاكل والتحديات مَنْ الذى سيحميها ويواجه التحديات ويهزم المشكلات؟
لو أننا نريد لمصر التقدم الموجود مثلًا فى كندا مَنْ الذى سيحدث هذا التقدم المأمول؟ هل نستورد شعبًا من الخارج ليصنع لنا التقدم؟ لماذا الهجرة من الوطن؟ الذى هو فى أمس الحاجة إلى العقول؟ هل نبقى فى الوطن فقط لأنه فى مصاف الدول المتقدمة وإذا كان فى خلف الصفوف ميلزمناش؟.
إن تحويل مصر من وطن "طارد" لأهله إلى وطن "جاذب" لهم لا بد أن يتم بيد المصريات والمصريين.
مصطلح "المواطن العالمى" لا أرتاح إليه كثيرًا، فالمواطن فى وطنه أولًا، "عولمة المواطنة" أمر غير ممكن إلا إذا تغير العالم وأصبح يؤمن حقًا بالعدالة غير قائم على الاستغلال والتمييز، واعتبار أن رأس المال هو القيمة وليس الإنسان.
إن طموحى لمصر كبير، فأنا أحلم أن تكون وطنًا لا تختفى فيه الهجرة "غير الشرعية" فقط، لكن أيضًا "الهجرة الشرعية" حتى لو كانت الهجرة مُرخصة وقانونية ومسجلة وآمنة فإن مصر أولى بأهلها.
القضية كما أراها ليست فى نوع الهجرة شرعية أو غير شرعية، القضية هى "لماذا أهاجر أصلًا وأترك وطنى؟ القضية هى فى مبدأ الهجرة فى حد ذاته، الإجابة التقليدية هى "بره فيه تقدم وتحضر ورقى وكرامة وكل حقوق الإنسان".
وأنا أرى أن الوطن الذى علمنى وربانى وأكلت وشربت من خيراته له حق علىّ، ليه مقعدتش فيه أنا وغيرى عشان أخليه زى بلاد بره، فيه تقدم وتحضر ورقى وكرامة وكل حقوق الإنسان؟
إن المشاركة فى تقدم وطنى أكثر متعة من الاستمتاع وأعمق المتع، أبسط شئىء فى هذه المتعة هو الوفاء بالدين، نحن نغنى لحب مصر طوال الوقت، لكن العبرة أن يكون هذا الحب مثمرًا فى الواقع بما يفيد مصر ويغيرها للأفضل ونظل نكرر إننا نعشق تراب هذا الوطن، لكن الأهم أننا نبقى فى الوطن لنحول ترابه إلى ذهب.
ويتمادى عبدالوهاب شاديًا على لحن فى منتهى العذوبة "حب الوطن فرض عليا"، تأليف أمين عزت الهجين، وحب الوطن مثل كل أنواع الحب لا بد أن يصمد فى أوقات الشدائد والمحن وإلا كان حبًا مزيفًا هشًا أو حبًا نفعيًا انتهازيًا، يجرى من الأزمات يهرب من التحديات ويأتى مع الانفراجات والازدهار.
هذا هو حب الوطن الذى يفيد الوطن، حب عن قرب مغروز فى طين الأرض، معجون بأنينها، مختلط بمائها وهوائها، ممتزج بلون شمسها وآلامها.
بعد أن ينجح الإنسان وكسب المال وامتلك الأشياء فى المهجر، أقصد بعد أن يشبع، تظل هناك فى قلبه حسرة وإحساس بضريبة التهرب الوطنى وشعور بأنه ليس سعيدًا فى حقيقة الأمر، ليست هناك سعادة تماثل سعادة أن يكون الإنسان دائمًا ولو مجرد طوبة واحدة لبناء وطنه أو درجة واحدة على سلم حضارة بلده.
هناك مثل يقول "يعرف الصديق وقت الشِدة"، لنكن جميعًا أصدقاء للوطن فى جميع الأوقات.

من بستان قصائدى
  بول البعير يشربون
  يتوعدون فى الميكرفون
 دم الآخرين يهدرون
  شَعر اللحية يطيلون
  بالشهوات الخبيثة يتربصون
  يسيل لعابهم ويتعفرتون
  ولا يهدأون إلا بعد أن
  يتحرشون ويغتصبون
  وبكلمة شفوية واحدة
  يغضبون ويطلقون
  إناث قصر يتزوجون
  يضربون ويتشرطون
  يحجبون وينقبون
 فى المضاجع يهجرون
 إماء وجوارى ينكحون
  باِسم الشرف يذبحون
  بإناث المحارم يزنون
  بالدين والوطن يتاجرون
  السلاح والمخدرات يهربون
 ورغم ذلك هم الذكور الأعلون
  على النساء قوامون.