رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفن والواسطة من جديد

في الوسط الفني، أكثر من غيره، تنتشر فكرة الواسطة، بل يصير مفهوما تماما، مع الأعمال الجديدة بالذات، أن وجوها كثيرة أتت بها الوسائط لا المواهب، والوسائط أقرباء يشتغلون بالفن، أو أصدقاء نافذون في مجاله، أو بشر واصلون جمعتهم بالفنان أو الفنانة علاقات شخصية قوية أيا كانت!
الطبيعي أن يعمل الإنسان بموهبته لا واسطته، لكن العمل بالواسطة، مهما تدنت الموهبة، صار نبرة سائدة، جعلت كثيرين من الرعاع يتقدمون الصفوف، ومكانهم الفعلي خارجها أو في أواخرها، وجعلت كثيرين من الحقيقيين الصادقين يتأخرون، وهم الأوائل لمن تأمل المشاهد بعين العادل المنصف.. هؤلاء الحقيقيون الصادقون أصابهم إحباط عظيم طبعا؛ لأنهم جلسوا في بيوتهم وافتقروا إلى دخول تعصمهم من إراقة مياه الوجوه بمد الأيدي إلى الناس لطلب المعونات والقروض، وضاع مستقبلهم تقريبا..
إن الواسطة قتل ما، نوع من أنواع القتل الأبيض الذي لا تظهر فيه دماء الإنسان، ذلك أنها تطفئ جذوات مشتعلة، وتحول مسارات الناس قهرا إلى أعمال دون ما تعلموه وفهموه وأحبوه، ودون طاقاتهم الخلاقة بكثير، وأظننا جميعا نعرف فنانين وفنانات لم يسعهم وسطهم؛ فاضطرتهم الظروف التي قست إلى توجيه الهمم إلى أوساط أخرى أتعست أرواحهم إتعاسا!
إلى هذه اللحظة تتحكم الوسائط في المجال الفني، هي متحكمة في مجال الثقافة والأدب أيضا، وفي جميع المجالات الأخرى لو أردنا الحقيقة، نظرية وعملية، غير أن تحكمها في مجال الفن، التمثيل والغناء وكل ما يدخل في المجال، أبرز من تحكمها في سائر المجالات الأخرى؛ ربما لأن ثمن النجاح الفني شهرة طاغية وغنى هائل ومكانة عالية في نفوس الجميع..
هذا التحكم عيب مجتمعي خطير بالتأكيد، والمجتمعات التي تنشد الحياة السليمة لا تقترف جريمة كهذه الجريمة؛ فالأمم تنهض باحترام موهوبيها ومنحهم فرصا متساوية للصعود، لا دفن جماعة منهم أحياء لأن أيديهم خالية من الوسائط، والنظر إلى أية موهبة يجب أن يخلو من كل نقص، ويجب أن يتحلى بشجاعة الاعتراف بها، وأن يملك فضيلة مساندتها وتشجيعها ومتابعة تقدمها وتطورها، في نطاقها المختار، إلى النهاية.
السبيل إلى الخلاص من الواسطة هو بناء الضمائر من جديد والنأي عن المنفعة الخاصة بإكبار المصلحة العامة، ولا سبيل سوى هذا السبيل، وسوف يظل الفاسدون مسيطرين على مجال الفن، كسيطرة أمثالهم على غيره، ما لم نكشف اضطرابهم وخللهم وجدبهم وقحطهم للناس، وما لم نكن مدافعين عن مواهب الموهوبين، وساعين إلى نصرتها وتحققها، كسعي أصحابها أنفسهم وأكبر سعيا.. إن كل ما نقوله ونفعله، إن كان على طريق الإنصاف، فإنه كفيل بأن يعزز الفكرة العادلة فيما يمنحه المانحون من العطايا للمنتظرين على تباينات صفاتهم؛ وهكذا يجعل الخلق مطمئنين من جهة الأرزاق من حيث يجعل كل ذي مكان بمكانه!

  [email protected]