رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رفعت السعيد يكتب: رفاعة الطهطاوى.. المستنير الأول

د. رفعت السعيد
د. رفعت السعيد

هذه مقدمة عن «الكاتب» و«المكتوب عنه» وكلاهما لم ينل حظه من التقدير الواجب.. أما «الكاتب» فهو د. رفعت السعيد، وهو كاتب موهوب وصحفى مطبوع.. اختلطت فى حياته السياسة بالصحافة وانتصرت الأولى على الثانية.. ظلمته السياسة أو ظلم هو نفسه بالإخلاص للسياسة.. كان من أوائل من تصدوا بأقلامهم لدراسة التطرف باسم الدين فى وقت مبكر.. وناله رذاذ كثير من الإخوان وبعض أذنابهم فى الحياة الصحفية المصرية أو بعض من أجروا أقلامهم لهم.. وكان من المدهش أن هؤلاء امتلكوا الجرأة بعد ٣٠ يونيو لسرقة ما كتبه رفعت السعيد وتحويله لبرامج وروايات يتقاضون عنها الملايين..!! أما «المكتوب عنه» فهو رفاعة رافع الطهطاوى.. أفندى مصر الأول.. وعين الشعب المصرى الذى رأى حضارة الغرب ففهم جوهرها وأعجب بها وشرحها لقومه فى «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز».. أزهرى نابه يسافر مع بعثة من الطلاب ليؤمهم فى الصلاة فينافسهم فى الدراسة ويتقن الفرنسية ويصبح مترجم مصر الأول ويؤسس مدرسة الألسن وعدة مدارس أخرى ويبنى نهضة مصر فى مجال التعليم.. نموذج لمثقف إصلاحى أضاء شمعة بدلًا من أن يلعن الظلام، ولمصرى مخلص ما زلنا ننعم بأثر جهده حتى الآن.. نموذج عظيم فى حاجة لأن نعيد قراءته واستلهامه فى زمن الانتهازية والفهلوة وسرقة الأفكار والمواقف.. طبت حيًا وميتًا يا رفاعة العظيم.

                                                                                                                                                                                           (وائل لطفي)

الأزهرى الذى أسس نهضة التعليم المدنى فى مصر 

نقول دومًا إن الحرف الأول فى كتاب الليبرالية المصرية هو الشيخ رفاعة الطهطاوى.

ولكن ربما- أقول ربما- كانت ثمة بدايات تسبقه. هناك كتاب الشيخ حسين المرصفى الذى أسماه «الكلم الثمان.. عن الحق والعدل والحرية».

وهناك الشيخ حسن العطار وكان أستاذًا لرفاعة.. وهو أديب وشاعر ورحالة، ارتحل إلى تركيا وفلسطين، وجاب بلاد الشام. خالط ضباط الحملة الفرنسية وعلماءها، كان يُدرس لهم اللغة العربية، علمهم وتعلم منهم، واشتعلت فيه جذوة البحث عن الجديد، والمعارف الحديثة، ويتذكر رفاعة دومًا كيف كان يجلس فى بيت أستاذه العطار منبهرًا بعبارات مثل «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها».

وكان هناك أيضًا الشيخ عياد الطنطاوى الذى سافر إلى بطرسبرج ليعلم اللغة العربية فى جامعتها.. حيث أسهم فى تطوير علم الاستشراق فى هذه الجامعة العريقة، وعاد ومعه كتاب يشبه كتاب رفاعة «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وقد أسماه «تحفة الأذكيا بأخبار بلاد روسيا».

ومن حسين المرصفى وحسن العطار وعياد الطنطاوى وغيرهم تكونت دعوة لتحرير العقل الأزهرى من مجرد الحفظ والتلاوة. وتدعو لإعمال العقل لا النقل، وترفض ما كان يتردد نقلًا عن «جوهرة التوحید» للإمام السيوطى: 

وكل خير فى اتباع من سلف

وكل شر فى اتباع من خلف

لكن رفاعة كان أكثر التصاقًا بأستاذه حسن العطار ويقول إنه تعلم منه أهمية «دراسة العلوم العصرية التى درت عليه سعة الأفق وحب المعرفة».

وفيما كان الفتى يستعيد ما تعلمه عن أستاذه ليتحصن به فى تلك المناوشات والمناقشات التى كانت تشتعل فى أروقة الأزهر.. والتى كانت كثيرًا ما تنتهى بالاتهام بالمروق والكفر.. رشحه أستاذه حسن العطار لعزيز مصر «محمد على باشا» کی يسافر مع ثلاثة مشایخ آخرين ليكونوا هم الأربعة حراسًا أو حماة دينيين لحفنة من المبعوثين أرسلوا إلى باريس لدراسة العلوم الحديثة فى مدرسة «البوليتيكنيك»، تحت إشراف عدد من الأساتذة الفرنسيين المرموقين.. سيلفستر دی ساسی، وکوسان دی برسفال، وفرانسواز جومار. والأخير كان عضوًا فى الأكاديمية الفرنسية، وشارك فى الحملة الفرنسية على مصر، وفى إعداد کتاب «وصف مصر». وكما التصق رفاعة الطالب الأزهرى بأستاذه حسن العطار، التصق فى باريس بفرانسواز جومار.

وقبل أن ينطلق الفتى إلى الإسكندرية ومنها إلى باريس.. جلس أمام حسن العطار ليتلقى منه آخر نصائحه.. وكان من بينها أن يسجل مذكراته أولًا بأول.. فشرع حتى وهو فى المركب المتجه إلى فرنسا فى تدوين هذه المذكرات التى أسماها فيما بعد «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز».

كثيرة هى الكتابات عن رفاعة، وهو يستحق أكثر، فهو الأب الحقيقى لحركة التنوير فى مصر الحديثة.. وكثيرًا ما كتبت أنا عن رفاعة، ولهذا سنكتفى بإشارات التوهج الليبرالى، وكوابت هذا التوجه، فمعركة رفاعة لم تكن سهلة ولا يسيرة، ومن ثم انعكست هذه الكوابت والصعوبات على مدى قدرة الشيخ الأزهرى، الموظف لدى حاكم مستبد، فى الإفصاح عن ليبراليته.

نحن إذًا أمام ليبرالية مخنوقة، غير قادرة على الإفصاح عن نفسها إفصاحًا كاملًا.. فالشيخ الأزهرى يخوض بكلماته وأفكاره عبر أمواج الفكر الأزهرى المنغلق- آنذاك- على النقل.. والحواشى، والعازف أو العاجز عن التجديد، أو الخروج من إسار القديم. وهو موظف عند حاكم مخيف هو محمد على باشا. وكان محمد على يقبل بالتجديد فى الصناعة والتجارة والتعليم، لكنه لم يكن ليقبل حرفًا واحدًا من نقد، أو حديث عن تحرير المصريين، أو حقهم فى مواجهة الاستبداد. والحاكم لم يكن مجرد قبضة متشددة مخيفة، لكنه كان أيضًا يدًا مبسوطة بالمنح والعطاء.

«فطوال الفترة الممتدة منذ قيام محمد على بإلغاء نظام الالتزام حتى طرد إسماعيل.. كان حاكم مصر هو أكبر مالك للأرض.. وكان هو المنبع الوحيد لتملك الآخرين. إن تاريخ الملكية الزراعية فى مصر يوضح أن الملكيات الكبيرة قد نبعت من مصدر وحيد هو إرادة الحاكم»، ونلاحظ أن محمد على يختار مَن يمنحهم الأرض من بين موظفيه، أى من هذا الطاقم الإدارى الجديد الذى تولد عبر تكوين فئة جديدة من المثقفين العصريين الذين اعتمد عليهم محمد على فى بناء جهازه الحديث.. والذين وبقدر ما كان يتعمد ترويعهم.. كان يسعى لتطويعهم.

وثمة نماذج.. هى مجرد نماذج لحالة كانت سائدة.

«مصطفی بهجت باشا منحه محمد على عهدة قريتين يبلغ زمامهما ١٨٠٠ فدان، ثم منحه عباس باشا ٤٠٠ فدان أخرى»، و«حامد أبوستيت، وكان ابن فلاح فقير. لكنه تعلم وتوظف وترقى فى سلك الوظائف حتى أصبح حاكمًا لمحافظة جرجا، ثم محافظة قنا، وكان يمتلك ما يزيد على ٧٠٠٠ فدان بالإضافة إلى ١٠٠ فدان مزروعة نخيلًا».

واستمر الحال حتى عهد إسماعيل. ويروى أحمد عرابى فى مذكراته أن إسماعيل أمر فور توليه الحكم «لكل واحد من الباشوات (يقصد كبار قادة الجيش وكان يطلق عليهم لقب عسكرى هو أمير اللواء) بخمسمائة فدان، ولكل من أمراء الآلايات بمائتی فدان، ولكل واحد من القائم مقامات بمائة وخمسين فدانًا»، لكن تدفق الإنعامات لم يكن عشوائيًا، فأحمد عرابى على سبيل المثال جرى حرمانه من هذه «الهبة» أو «المنحة» لأنه «صلب الرأى، شرس الأخلاق، لا ينقاد للأوامر».

ومع ذلك فإن المنصب كان كافيًا بذاته کی ينتقل بأحمد عرابی من ابن مالك صغير إلى واحد من كبار الملاك، فقد ورث من والده ثمانية فدادين ونصف الفدان، لكنه يسجل أملاكًا شاسعة فى قائمة سلمها لمحاميه أثناء محاكمته.

«إلى جناب المحترم المستر برودلى المحامى عنا. بيان بأطياننا وأملاكنا التى بالجهات الموضحة أدناه:

٥٣ فدانًا بناحية هرية رزنة، ٧٦ فدانًا خراجیة، ٨٢ فدانًا عشورية، ١٦٨ فدانًا ملكًا خاصًا بنا».

وبالإضافة إلى ذلك «١٦٠ فدانًا بناحية الأخيوة شرقية، و٤٠٠ فدان بناحية قهیونة شرقية، ٣٧ فدانًا بناحية كفر السناجر شرقية، وقد صار مشتراها من أطيان الميری بمديرية الشرقية بطريق المزاد، وبالاشتراك بينى وبين حسن باشا أفلاطون ودفع الثمن بالمالية».

أما رفاعة الطهطاوى، وهو الذى أتى إلى القاهرة على مركب فى النيل بعد أن باعت أمه كل ما تمتلك من حلى مقابل جنيهين، فقد ترك لورثته أكثر من ٧٠٠ فدان.

هكذا إذن نكتشف- ودون عناء- عناصر «الجين» الوراثى الذى دفع ليبرالية أصحاب العمائم إلى أن تسلك منحنی ضيقًا يشبه ثقب الإبرة، بحيث ينفذ منه وبالكاد رذاذ محدود الأثر والتأثير.. وسنرى أن عموم مثقفى مصر ورثوا ذات «الجين» الوراثى.

ونعود إلى رفاعة الطهطاوی لنجد أنه قد تلقن الليبرالية قطرة قطرة، وأنه استمد أكثر قطراتها من مماحكاته ومناقشاته وتأملاته الباريسية..

لكن لرفاعة الحق فى أن نقرر أنه غادر شواطئ مصر بقلب مفتوح وعقل منفتح. ذهب مشتاقًا للعلم والتعلم. وهذه ميزته الكبری.

وفيما كانت السفينة تغادر الإسكندرية، جلس لیکتب الأسطر الأولى فى «تخليص الإبريز»، ويكتب «وقد حصل لى الغم الشديد بعدم تیسر زیارتی سیدى إبراهيم الدسوقى فى القرب من دسوق» وردت هذه العبارة فى الصفحة الأولى من مسودة الكتاب. لكنها تختفى عندما يطبع الكتاب. فعندما طبع رفاعة كتابه بعد عودته من البعثة، كان قد أصبح شخصًا آخر، بفكر آخر، وعقل آخر.

وطوال الأشهر الباريسية الأولى.. كان يواصل الكتابة واصًفا ما يراه مسجلًا فى مذكراته «أن بلاد أوروبا أغلبها نصارى أو كفرة»، ويتحدث عن الدستور الفرنسى، الذى أسماه «الشرطة الفرنساوية»، مشيرًا إلى ما يحتويه من مبادئ وقيم فيقول «لتعرف كيف حکمت عقول الكفرة بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمیر الممالك، وراحة العباد». ويطالع سيلفستر دی ساسى المسودات، ويخوض نقاشًا مع رفاعة ينتهى بأن تشطب كلمة «الكفرة» من كل صفحات المسودة لتحل محلها كلمات مثل «الإفرنج» أو« الفرنساوية» أو«النصاری».

لكن رفاعة لم يكن مجرد وافد منبهر بما حوله.. محاولًا تقلید کل ما يراه، بل نظر إلى باريس وإلى ما يردده أساتذته الفرنسيون نظرة انتقادية. واختلف معهم كثيرًا، وسجل خلافه معهم كتابه. وعندما ألح إليه واحد منهم بأن يغير زيه المصرى ويلبس كما يلبس الفرنسيون، رفض مؤكدًا أن:

«التمدن ليس فى زينة الملابس بعرف مجهول متخيل استحسانه، لاسيما إذا كان لا يمكن لمن تزيا به إحسانه، فحاجة الوطن إلى المتعة الحقيقية أشد من حاجته إلى تقليد العرف الذى هو منفعة ظاهرية»، ثم يؤكد فى صراحة «لو أننى اتبعت كل ما قاله الإفرنج، ووافقت آراءهم للحياء أو غيره لكان ذلك محض موالسة».

ويجادله أصدقاؤه الفرنسيون طويلًا منتقدين أحوال مصر ومكانتها لكنه يصمم أن «البركة فى هذه الدنيا قسمت إلى عشرة أقسام اختصت مصر بتسعة منها».

وحاول الفرنسيون أن يكسبوا هذا الشيخ المتفتح والذى يوحی بمستقبل باهر إلى صفهم وإلى صف مصالحهم محاولين إقناعه بأن «منافع مصر تقع موقع التحقيق لو دامت هذه المملكة فى قبضة الفرنساوية»، لكنه رفض ذلك صراحةً مؤكدًا لهم أن رأيهم هذا «مبنى على شبهة واهية، وهى أن مصر يسوغ أن تصلحها فرنسا أو أى مملكة تكون لها مضاهية، فاعتقاد ذلك من الإيغال المدهی، ومن باب التشبيهات الفاسدة، وإنما يقتل النفوس التشهى» لكن رفاعة يعجب أشد العجب بالفرنسيين؛ بل ويفضلهم على العثمانيين أصحاب دولة الخلافة الإسلامية، والذين كان محمد على- وإن شكليًا- يحكم مصر باسمهم، فيقول «ولا شك أن الفرنساوية أقرب إلى العرب من الترك، فهم يحرصون على الشرف والحرية، ويحبون الافتخار، ويفون بعهودهم».

وهكذا عاد رفاعة إلى مصر مصريًا كما ذهب.. لكنه مصری مستنير، عاد «ومصباح الغرب بإحدى يديه، ومفتاح الشرق باليد الأخرى».

.. ولعل رفاعة كان حسن الحظ. فالوالى الذى أرسله إلى باريس، والذى عاد إلى رحابه، كان واليًا مستنيرًا إلى حد كبير، «مع التحفظ بأن استنارته انحصرت وفقط فى مجال تحديث مصر، ولم تمتد إلى تحرير المصريين» وكان راغبًا فى تحديث مصر.. ومن ثم أفسح صدره إلى تطلعات رفاعة. فمحمد على كان يتطلع إلى أن يجعل من مصر بلدًا متقدمًا.. وكان شديد التعلق بمصر.. «إن مصر جنة الله فى الأرض، ولو وهبنى الله مائة حياة فوق حياتى هذه لبذلتها من أجل الاحتفاظ بحكم مصر»، هكذا كان يردد محمد على أمام ضيوفه الأجانب. وقد نهض محمد على بالتعليم الحديث نهضة عظيمة وضعت الأساس لمصر الحديثة ولمثقفيها، متعلميها العصريين من الأفندية «أى غير الأزهريين».. «كان عدد طلاب مدرسة الطب البشرى ٧٠٠ طالب، والبيطری ٣٥٠ طالبًا، ومدرسة الفنون والصناعات ٦٠٠، ومدرسة الهندسة والمعادن ١٥٠، وكان مجموع طلاب المدارس الخصوصية أى المتخصصة ٤٥٠٠ طالب».

كما أنه فتح أبواب مصر أمام بعثة من السان سيمونيين قوامها ستون رجلًا وامرأة، وحدد لهم برنامجًا يتضمن «إنشاء مدرسة للزراعة، الإسهام فى بناء القناطر الخيرية، إنشاء شبکة من الترع والرياحات، إدارة مدرسة الهندسة العسكرية، إنشاء نفق فى شبرا، عمل تمثال نصفى للوالى، إعداد إحصاء جغرافى، إلقاء محاضرات فى الفن والأدب، إقامة حفلات موسيقية.. إلخ»، ولقد كان السان سيمونيون الذين أتوا إلى مصر من مهن مختلفة تستطيع أن تلبى متطلبات هذا البرنامج الطموح: عشرة مهندسين، تسعة أطباء، ثلاثة مهندسين زراعيين وغيرهم من الأدباء والموسيقيين والرسامين والنحاتين».. وقد تعلق هؤلاء الخبراء بمصر، سحرهم سحرها، ومارسوا كل ما حلموا به من إنشاءات وهوايات، ويسجل رئيس البعثة برتلمى أنفانتان مدی تعلقه بمصر قائلًا: «إن الشرق الغامض غموض الصحراء.. كلمة ساحرة مليئة بالضياء والغموض، والشرق معناه مصر، مصر الساحرة، أرض فرعون وموسی والنيل».

ويعود رفاعة من باريس ليعيّنه الوالى مدرسًا فى مدرسة طرة وكانت مدرسة عسكرية، لكنه وقد أتيحت له مقابلة محمد علی کی يهدى إليه ترجمته لجزء من كتاب «ملطبرون»، انتهز فرصة هذا اللقاء فى أن يقنع الوالى بأمرين كانا بالغى الأثر فى مستقبل مصر.. الأول إنشاء صحيفة على نمط «الجرنالات» الفرنسية، والثانى الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية، واقتنع الوالى بالأمرين، وجعله رئيسًا لتحرير «الوقائع المصرية»، وناظرًا لمدرسة الألسن.

وتبدأ رحلة رفاعة، لم تكن رحلة كاتب مستنير، ولا رجل دين منفتح على العصر، بل كانت وببساطة رحلة بناء جيل من المثقفين العصريين. جیل حمل على عاتقه مهمة بناء الجهاز الإدارى لمصر الحديثة.. وبناء صرح الثقافة المصرية عبر حركة غير مسبوقة بل لم تشهد لها مصر مثيلًا حتى الآن.

كانت مدرسة الألسن مصنعًا لهذا الجيل. تجول رفاعة بنفسه عبر قری مصر فى رحلة نيلية، يدخل الكتاتيب يمتحن التلاميذ، يختار أكثرهم ذكاءً ونجابة ويأخذهم معه. «فى البداية كان عدد التلاميذ ٥٠ تلميذًا ثم ارتفع العدد إلى ١٥٠»، المدرسة داخلية، ورفاعة مقیم مع تلاميذه ليلًا ونهارًا.. فهو معهم باستمرار يناقش، يحاضر، يصحح الترجمات. وربما بدأ الدرس بعد صلاة العشاء ليستمر ثلاث ساعات أو أربعًا ثم يبدأ الدرس التالى بعد صلاة الفجر ليستمر ساعات عدة. ألم نقل إنها مصنع.

هكذا أطلنا ونحن نتجول فى حديقة التنوير الأولى.

وآن لنا أن نعود إلى رفاعة نفسه لنطالع بعضًا من أفكاره..

ولكن.. ومرة أخرى نتوقف أمام هذا الأزهرى المستنير. يشق الطريق الصعب فى وجه تشدد الشيوخ، وتخلف أفكارهم، وتسلط الحاكم الذى لا يجرؤ أحد على معارضته أو عصيان أوامره. وفى كل مأزق من هذه المآزق كان رفاعة يلجأ إلى تفسير دينی يحتمی به..

فعندما صدرت «الوقائع المصرية» كانت تطبع بلغتين «العربية والتركية» نسخة واحدة بلغتين. وكان محمد على قد أمر أن تحتل الكتابة التركية يمين الصفحات.. واللغة العربية يسارها. وبهدوء شديد صحح رفاعة الوضع، العربية يمينًا والأخرى يسارًا. ويستمر الحال كذلك عامًا وبعض عام، ثم يسعى الوشاة إلى ولى النعم ويستدعى رفاعة غاضبًا.. ويعتصم رفاعة من غضب محمد على الهائج بالدين.. فالعربية لغة القرآن الكريم. ويهدأ غضب الوالى، وإن كان قد أمر بإعادة الوضع إلى ما كان عليه.

وعندما أثيرت قضية «دوران الأرض» وصاح أزهريون كثيرون بتكفير كل من قال إن الأرض كرة وإنها تدور، يتلمس رفاعة طريقًا حذرًا يحاول به أن يتحدى الفكرة السائدة بأن الأرض ثابتة وأنها مسطحة، فيقول ناسبًا الحديث إلى عالم أجنبى لم يذكر اسمه: «إن القول بدوران الأرض واستدارتها لا يخالف ما وردت به الكتب السماوية، ذلك لأن الكتب السماوية قد ذكرت هذه الأشياء فى معرض وعظ ونحوه، جريًا على ما يظهر للعامة لا تدقيقًا فلسفيًا، مثل ما ورد فى الشرع أن الله تعالى أوقف الشمس، فالمراد بوقف الشمس تأخير غيابها عن الأعين، وهذا يحصل بتوقيف الأرض عن الدوران، وإنما أوقع الله الوقوف على الشمس لأنها هى التى يظهر فى الأعين سيرها». ويشير واحد من أساتذة رفاعة «كوسان دی برسفال» إلى هذه العبارة مشككًا فى نسبتها إلى عالم أجنبى قائلًا إنها تعبر عن تفکیر إسلامی محض. وبرغم هذا الاحتياط، فإن هذه العبارة التى وردت فى مسودة «تخليص الإبریز» قد شطبت عندما طبع الكتاب.

ويبحث رفاعة عن مخرج جديد.. دینی بحت هذه المرة. دینی لأنه هكذا يمكن أن يُقبل، فيقول «ووقعت محاورة بين العلامة الشيخ محمد المناعى التونسى المالكى، المدرس بجامعة الزيتونة، وبين مفتی الحنفية العلامة الشيخ محمد البيرم، المؤلف لعدة كتب فى المنقول والمعقول، وله أيضًا تاریخ دولة بنى عثمان، حول كروية الأرض وبسطها، البسط للمناعى والكروية لخصمه. وممن قال من علماء المغرب بأن الأرض مستديرة وأنها سائرة العلامة الشيخ مختار الكنتاوى بأرض أزوات بقرب بلاد تمبكتو، وهو مؤلف مختصر فى فقه مالك ضاهی به متن الخليل، وضاهى أيضًا ألفية ابن مالك. وله مؤلفات كثيرة، وألف كتابًا اسمه (النزهة) جمع فيه جملة علوم، فذكر بالمناسبة علم الهيئة، فتكلم عن كروية الأرض، وعن سيرها، ووضح ذلك، فتلخص من كلامه أن الأرض كرة، ولا يضير اعتقاد تحركها أو سكونها».

.. وهكذا استدار رفاعة دورة واسعة حول الفكرة، ثم نال منها عبر حديث عن شيخ ربما لم يسمع به أحد.. هناك بعيدًا فى أرض أزوات بالقرب من بلاد تمبكتو.

.. وهكذا فإن القيد قد يكون بذاته مخرجًا. 

ونعود إلى ليبرالية رفاعة. نعود لنحاول أن ننهل قطرات من بحر زاخر.

ولنبدأ بمعركة رفاعة الأساسية.. التعليم «التعليم يجب أن يكون عامًا لجميع الناس، يتمتع به الأغنياء والفقراء على السواء.. فهو ضروری لسائر الناس يحتاج إليه كل إنسان كاحتياجه إلى الخبز والماء».. عبارة مماثلة قالها طه حسين بعد أكثر من قرن من الزمان، واعتبرها الناس ولم يزالوا قفزة ديمقراطية وليبرالية بالغة الأهمية.

والتعليم الذى يقصده رفاعة هو التعليم العصرى.. وليس ذلك التعليم الذى عرفه الأزهريون على زمانه.. إغراق فى كتب السلف، والاعتماد على النقل.. دون إعمال العقل.. فيقول: «إن مدار سلوك جادة الرشاد والإصابة، منوط بأولى الأمر فى هذه العصابة (كان يتحدث عن شيوخ الأزهر) التى ينبغى أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التى لها مدخل فى تقديم الوطنية، لاسيما وأن هذه العلوم الحكمية العلمية التى يظهر الآن أنها أجنبية، هى علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية».

وهو يفرق بين الشيخ والعالم قائلًا: «لا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس، فالقسوس علماء فى الدين فقط. وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة فى العلوم العقلية التى من جملتها علم الأحكام والسياسات» و«علماء الفرنسيس نوع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور واعتناءهم زيادة على ذلك بنوع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هى أوصاف العالم.. وليس عندهم كل مدرس عالمًا».

ثم يفتح رفاعة ثغرة كبيرة فى جدار الجمود والتخلف، عندما يدافع عن ضرورة تعليم المرأة: «إن القول بأنه لا ينبغى تعليم النساء الكتابة ارتكازًا على النهى عن ذلك فى بعض الآثار.. ينبغى ألا يكون على عمومه، ولا نظر إلى قول من علل ذلك»، ثم «وقد اقتضت التجربة فى كثير من البلدان أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل لا ضرر فيه أصلًا» وأيضًا.. «ودخول المدارس للبنات والغلمان واجب قانونًا فى جرمانیا. بل إن أوروبا كلها تعلم البنات والبنين على قدم المساواة.. وهذا هو السر فى أن بلادهم الآن هى أقوى البلدان».

ويواصل رفاعة معركة الدفاع عن المرأة.. ويسبق فى ذلك قاسم أمين بأكثر من نصف قرن: «إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتى من كشفهن أو سترهن، بل ينشأ ذلك من التربية الجيدة أو الخسيسة، والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك فى المحبة، والالتئام بين الزوجين».

ولا مجال عند رفاعة للتفريق بين الرجل والمرأة: «فإذا أمعنا النظر فى هيئة المرأة والرجل فى أى وجه من الوجوه لم نجد إلا فرقًا يسيرًا يظهر فى الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما.. ثم إن للمرأة، بغض النظر عن تباين الجنس، صفات أخرى تتميز بها عن الرجل». 

والعمل حق المرأة، وهو ضرورة لحمايتها اجتماعيًا وأخلاقيًا «فكل ما تطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن من العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل»، ثم «إن العمل يصون المرأة عمَّا لا يليق بها، ويقربها من الفضيلة».. «فإن اليد الفارغة تسارع إلى الشر.. والقلب الفارغ يسارع إلى الإثم».

.. والقول عند رفاعة مبدأ يلتزم به. فهو ليس مثل الكثير من الرجال الشرقيين يتحدثون عن المساواة بين الرجل والمرأة، مجرد قول بلا فعل، بل وفى كثير من الأحيان يكون الفعل عكس القول.

فعندما يتزوج رفاعة يمنح زوجته تعهدًا مكتوبًا «أليس هذا أمرًا نادرًا؟». والتعهد مكتوب بخطه.. ومختوم بخاتمه وأودع فى أرشيفات عهد محمد على بالقلعة «التزم كاتب هذه الأحرف رفاعة بدوی رافع لبنت خالته المصونة الحاجة كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى، أنه يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى ولا جارية أيًا كانت، وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء، أو تمتع بجارية أخرى، فإن تزوج بزوجة أيًا ما كانت.. كانت بنت خاله بمجرد العقد طالقة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين.. ولكنه أوعدها وعدًا صحيحًا لا ينتقض ولا يحل، أنها ما دامت معه على المحبة المعهودة، مقيمة على الأمانة والعهد لبيتها ولأولادها ولخدمها وجواريها، ساكنة معه فى محل سكناه لا يتزوج بغيرها أصلًا، ولا يتمتع بجوارٍ أصلًا، ولا يخرجها من عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاه». ووثيقة كهذه لا تحتاج إلى أى تعليق.. فقط نحنى رأسنا احترامًا.

ولعل رفاعة هو أول من استخدم تعبير «الأمة المصرية».

وفيما كان مشايخ الأزهر يسبون الفراعنة ويعتبرونهم رمزًا للكفر، وكانوا هم وتلاميذهم وتابعوهم ينظرون فى احتقار- يرتدى ثيابًا دينية- إلى الآثار الفرعونية ويسمونها «المساخيط»، «فالتماثيل الحجرية كانت رجالًا ونساء نزل عليهم سخط الله لكفرهم فجعلهم أحجارًا.. فإن رفاعة يقول «إنه لم يكن بين الأمم مثل قدماء مصر فى قوتهم، وكانت خيولهم تسبق سالفًا خيول سائر المالك فى الركض فى ميادين الفخار والعلم»، ويتجاسر رفاعة فينتقد سماح محمد علی بنقل إحدى المسلات المصرية إلى باريس ويقول «حيث إن مصر أخذت الآن بأسباب التمدن والتعلم على منوال أوروبا، فهى أولى وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة».

وهكذا يعتبره المؤرخون المحدثون «أول مؤرخ مصری عرف تاريخ مصر القديم على حقيقته فى ضوء ما وصلت إليه الكشوف الأثرية وما كتبه المؤرخون الأوروبيون فى عصره، وهو أول مؤرخ مصرى آمن بأمجاد هذا التاريخ المصرى الفرعونى القديم، ولم يلعنه، ولم ينقص من قدره».

ويمضى رفاعة فى غرس محبة مصر فى نفوس المصريين، وفى تأكيد جدارتها بأن يتباهى بها المصريون.. «مصر أم الدنيا، وكانت شوکة سلاحها قوية، وهيبتها فى القلوب متمكنة عليه» و«مصر أم الحضارات لم تسبقها أمة فى ميدان المدنية ولا فى حرفة تقنين القوانين وتشريع الأحكام، ولم تجحد نعمة اقتباس علومها أمة عاقلة».

وشعرًا ينشد تلاميذه معه: 

یا صاح حب الوطن.. حلية كل فطن

فمحبة الأوطان.. من شُعب الإيمان

وأيضًا:

مال المصرى كذا دمه.. مبذول فى شرف الوطن 

تفديه العين بناظرها.. والنفس بخیر ذخائرها

.. وهكذا يمضى رفاعة فى طريق الدفاع عن مصر والمصريين، عن حريتهم ومستقبلهم.. ولكن «ثقب الإبرة» الذى حاول رفاعة أن ينفذ منه اصطدم، وكان يجب أن يصطدم بصلف الحكام واحتقارهم لمصر ولمصرييها.

فيأتى عباس.. ليصفى جهد رفاعة التعليمى، يغلق المدارس ويطرد الموظفين، ثم يتذکر کتب رفاعة، ويقول إن کتاب تخليص الإبریز «يفيض بآراء تهيج الرعية وتحضها على التمرد وعدم إطاعة الحاكم، طاعة مطلقة».

وتكون محنة مصر، ومحنة المثقفين، ومحنة رفاعة الذى يطاح به إلى بلدة طوكر فى السودان بصفة «خوجة» أى مدرس بمدرسة ابتدائية هناك.