رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا الناهية منذ متى أصبحت نافية

أعطتنا مفردات اللغة كل المعانى التي نحتاجها في التواصل الإنسانى، لنشارك أفكارنا ومشاعرنا ورغبتنا وأيضا إمتناعنا ورفضنا للكثير من الأمورالتى نعايشها، نعرف باستخدام أبسط قواعد اللغة كيف نخبر أحدهم بأن يمتنع عن أمر لا يوافق هوانا وننهاه عما لا نطيق أو نرضى، وبنفس المفردات أخبرتنا كل العهود الإنسانية والتاريخية  أننا خلقنا أحرارًا نقبل ما شئنا ونلفظ ما بغضنا، بل إن تمسك الإنسانية بحق تقرير مصيرها دفعها لتحريك جيوشها وأساطيلها لترسيخ معنى العزة والكرامة المبنية على حق الاختيار لا الخنوع والتسليم، بل أعطانا الله من فوق سبع سموات الحق في ذلك، فلم نجبر حتى على الإيمان به أو الالتزام بعقيدة دون غيرها تحت سطوة الإجبار والإكراه.

وعلى مدار عقود طويلة تحرك المجتمع المدنى بأسره في مسيرة طويلة ترسخ حقوق البشر جميعهم دون النظر لأى فروق وخاض التنمويون وأسرهم بجانبهم رحلة لهدم الثوابت البالية والمعتقدات التي تفرض بخاصة على النساء من الصغر، كفرض الطاعة وملازمة ألسنتهن نغمة نعم برغبة أو بدون، بإرادة أو بخضوع ولم يكن طريق التغيير سهلًا أو قصيرًا، ولكن مع أول إشراقة شمس للتغير كانت بادرتها تحول نعم العمياء الصامتة  إلى لا الواعية المسموعة؛ أبى المجتمع أن يتم نوره فداهمنا كل يوم بطامة أكبر من سابقتها من جرائم تجاه النساء في محاولة منه لبقاء تابوهاته الراسخة التي أسسها وغذاها على صور ذهنية مغلوطة عن المرأة، والحفاظ على السلطة الذكورية التي استمدت من قهر النساء وتعنيفهن.

تلك السلطة التي بنيت على منهجية باطلة بدأت بتسميم أفكارنا منذ نعومة أظفارنا وإقناع النساء أنفسهن بأنهن لا حق لهن في اختيار شيء بصفتهن مخلوق من الدرجة الثانية، وأن كل قرار يخصهم لا يمكن أن يمر دون أن يأخد تأشيرة المخلوق الأول والأسمى الذى اعتاد أنه الآمر الناهى المسيطر المرغوب دائما الذى تتمحور حولة حياة النسوة وتصرفاتهن ورغباتهن، وكلما حاولت النساء التمرد، من حين لآخر، على تلك السلطة واختيار ما تريد لاقت نوعًا مختلفًا من تشكيلة العنف ضد المرأة التي أنتجها المجتمع لتعزيز ميزان القوة في كفة الذكور فتارة عنف أسرى، وتارة جنسى وهلم جرا من أشكال العنف المعلنة أوالمسكوت عنها تجاه النساء اللاتى ازداد وعيهن بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وأصبحن قادرات على تحريك موازين القوة بشكل أو بآخر لصالحهن في بعض المواقف، وأصبح للكثير منهن يد في تقرير حياتهن ومستقبلهن، الأمر الذى كان يعتقد في وقت ما أن مجرد الحديث عنه هو مجرد أضغاث أحلام في ظل الأبوية الشديدة والقوة التي يهيمن عليها الرجال باستحقاق المجتمع تارة وبمفاهيم دينية مغلوطة أخرى وبتكليف فسره الرجال على أنه امتياز.

وانعكست هذه الصحوة لدى النساء بالطبع في اختيار الشريك  كحق للفتيات والتراضى مع من ترغب والرفض لمن لا ترضى فيه، وقد يبدو هذا شيئاً منطقيًا، ولكن مع الأسف الحق البديهي السابق على إثر استخدامه فارقتنا أرواح العديد من النسوة مؤخرًا، تخيل أن حقهن في الاختيار ورفض الشريك جرم أودى بحياتهن وجعلهن في مرمى سلاح الذكورية المجتمعية التي خمر وعجن وخبز بها أفكار المجرمين الذين صادفوا ضحايانا.

فلا سبب لكل جرائم الرفض العاطفى تجاه النساء غير تلك التابوهات التي تأبى أن تحترق حرقاً فتجول في عقول الشباب ستجد أنهم ما زالوا يعتقدون أن حق الموافقة والزواج والترك هو امتياز لهم فقط، وللمرأة بعدها أن تبتهج لأن اختياره وقع عليها دوناً عن النساء أجمعين ولا يمكن أن يمر بخياله أن يُرفض، لأنه نشأ على أن الرجل بلا عيوب وفى أساطير أخرى "عيبه جيبه"، ومن الممكن أن نجد لها مخرجا مصبوغا بابتزاز دينى وطبقى؛ ليخلو الرجل من العيوب تمامًا، يصاحب ذلك وعى الرجل بأن النساء يتمنعن عنه فقط دلالاً وثقلاً من أجل أن يبذل المزيد ليس إلا، ولكنهن لديهن رغبة عارمة فيه يحاولن إخفاءها عنه، لتظل الفتاة في نظره الفتاة المستحقة له، كما تكتمل قناعاته بأن المرأة دائما ملعونة إن رفضته وتستحق عقاب السماء والأرض حتى إن لم تكن زوجته الحالة التي خلقت نوعاً من النرجسية المفرطة عند الرجال، وأصبح خيالهم خصباً بالسموم فهو من يقرر من يختار ومتى يترك أو يزهد في هذه أو تلك التي وجدت لإشباع رغباته، وقد يعتبر اختيار المرأة غيره جريمة وخيانة لابد من معاقبتها عليها، وقد يرى أيضا محاولة تركه دون رغبة منه إهانة لا يسكت عنها، بل في قناعة نفسه أن تلك المرأة تحتاج لتهذيب وإصلاح بكسرها وابتزازها ونهرها، ومن هنا حرَّف الرجل بفهمه المجتمعى مفردات اللغة "لا الناهية" التي تخبره بالامتناع عن فعل شىء غير مرغوب فيه  لـ"لا" القاتلة والفتاكة بل والناهية لحياة النساء.

والأمر المحزن أنه مع كل جريمة تجاه النساء قائمة على الرفض نصحو عليها، يحاول معتنقو تلك التابوهات البحث عن مخرج للمجرمين من الذكور بنفس المفاهيم الآثمة، والأغرب إلقاؤهم اللوم على الضحايا حتى وهن أموات ويذهبون بنصحهم للمرأة بدلا من الرجل مستبدلين النهى بالنفى عن المجرم، في محاولات يائسة لتدعيم صمت النساء وإخافة ذويهم والرجوع بكل المسيرة الحقوقية للنساء لنقطة الصفر، واستعادة هيبة الهيمنة الذكورية المسمومة بكاملها دون رادع أو عقاب.
والآن وبعد كل ما مررنا به لا يسعنا إلا أن نذكركم وإيانا بأن كل الرسائل التي تحاول الرجوع بالمرأة للوراء وأن ترهبها وتخيفها تجاه استخدام حقوقها؛ فإما نعم أو الموت وإما أن تخضعن لاختيارات الرجال أو تهلكن وتتساقط أرواحكن يوماً يعد يوم، وتزداد جرائمنا تجاهكن حتى لو كنتن في بروج مشيدة أو في وضح النهار فهى لن تنال منا، ولن ترجعنا خطوة ولن تصمتنا أو تنهينا عن استخدام حقنا في الحياة وحقنا في الاختيار ويجب أن تتذكر أنت أننا في دولة أساسها القانون، وأننا كنساء لنا نفس الحقوق ولن نترك منها ولو قيد أنملة، فالكرامة الحقة هي في شرف التمسك بالحقوق، ولتتعلم أنت كيف لإنسان أن يتعامل مع ما يشعر ويعالج ما به من نقص، وأن يجبر حاله على احترام الآخرين وحقهم في الاختيار خيرًا من أن يخضع الآخرين عنوة لاختياره، ولندرك جميعا أن لا الناهية لا تحتمل التأويل ولا يمكن أن يؤدى رفض أو اختيار بأسمى الحقوق، وهو حق الحياة.