رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدث يستحق الاحتفاء ويبقى أثره بلا انتهاء


رغم مرور 70 عامًا على قيام ثورة يوليو تبقى هي الثورة الأم التي حركت مياها راكدة قاريًا وإقليميًا ورغم ما قد يتقوله الرافضون لثورة يوليو من مبررات مفهومة أحيانًا وغير منطقية في أحيان كثيرة إلا أن منصفًا لا يمكنه أن ينكر ما استطاعت أن تنجزه تلك الثورة في كثير من المجالات، نعم كانت للثورة الأم بعض الإخفاقات لكنها تبقى حدثًا تاريخيًا ووطنيًا وإنسانيًا لا يمكن تجاهله.
فهي الثورة التي وضع صانعوها مبادئ حاكمة لا يمكن أن يختلف على سموها أحد حتى من أولئك الذين ناصبوها العداء، قد تكون آليات التنفيذ والمعوقات التي فرضت داخليًا وخارجيًا علاوة على عدم الاستعانة بذوي الخبرة من أهل السياسة هي الأسباب التي تسببت في تعثر مسيرة الثورة في بعض الأحيان.
وعلى الرغم من هذا فقد استطاعت ثورة يوليو تحقيق نجاحات ملموسة سعيًا نحو ترسيخ العدالة الاجتماعية، وفي ظني أن تلك النجاحات هي السبب الخفي والحقيقي وراء تلك الانتقادات التي تسعى للنيل من هذه الثورة وقادتها.
قد أستوعب مبررات أولئك الذين يهاجمون ثورة يوليو من أبناء الطبقة الأرستقراطية أو شركاء الحكم مع الملك، لكونهم من الموتورين الذين تأثرت مصالحهم بقيام الثورة ونجاحها في القضاء على النظام الملكي وأعوانه، لكن أن ينال من الثورة وقادتها أبناء الطبقة المعدمة الذين استهدفتهم قرارات الثورة الإصلاحية فهذا ما لا أستطيع أن أتفهمه مطلقًا.
وتبقى إنجازات هذه الثورة خير مدافع عن قادتها الذين غامروا بمستقبلهم من أجل أهداف وطنية آمنوا بها و قرروا تحقيقها ليس لمصالح شخصية أو فئوية ولكن من أجل كل أبناء الوطن، هي التضحية التي انتهت بنحاح تلك الثورة في تحرير البلاد من دنس الاستعمار واستعادة حكم مصر لأبناء مصر بعد حقب زمنية ممتدة تولى الحكم فيها الغرباء.
وحتى على المستوى الاقتصادي تمكن الثوار ومعهم تكنوقراط آمنوا بأهداف الثورة فأعانوا قادتها، في خلق قاعدة صناعية وطنية أدخلت صناعات وطورت أخرى، ولهدف نبيل سعت الثورة وقائدها إلى إعادة توزيع الثروة من خلال إجراءات التأميم وربما انتهى هذا المسعى إلى نتائج عكسية أبرزها تفتيت الثروة - وخاصة الأراضي الزراعية - مما انعكس سلبًا على حال المنتجات الزراعية كمًا وكيفًا بمرور العقود.
نعم كانت الدعوة لمجانية التعليم سابقة على اندلاع الثورة، لكن الثورة هي التي جعلت هذه الدعوة واقعًا ملموسًا مكّن أبناء الفقراء من نيل حقهم في التعليم المجاني حتى نهاية المرحلة الجامعية، بل ومنح فرصًا عادلة للمتفوقين من الخريجين لعمل الدراسات العليا داخل مصر وخارجها فصاروا هم كوادر الجامعات الحكومية وقادة الجهاز الإداري للدولة لعقود طويلة.
ومضى الأمر على هذا النحو أيضًا مع العمال الذين وجدوا نقابات عمالية تطالب بحقوقهم وتمنحهم فرصًا ما كانوا يحلمون بها قبل الثورة فجعلت الثورة نصف كراسي البرلمان حقًا أصيلًا لعمال مصر وفلاحيها.
أما على مستوى السياسة الخارجية فقد نجحت الثورة في وضع مصر على الخريطة العالمية كعضو مؤسس وفاعل لحركة عدم الانحياز وكقائد إقليمي وكحليف مخلص لكل الباحثين عن الحرية من الأشقاء العرب والأفارقة، واستطاعت الثورة في سنوات قليلة أن تصنع لنفسها منظومة إعلامية قادرة على خلق الوعي لدى المواطن بل وصناعة رأي عام عربي مؤيد لتوجهات الوطن ومساند له.
ويبقى قرار تأميم قناة السويس درسًا مصريًا في التمسك بالحق الوطني مهما كانت التضحيات حتى لو اقتضى الأمر الدخول في حرب غير متكافئة ضد قوى الاستعمار المتحالفة رفضًا لقرارنا الوطني.
ولأنها كانت بالفعل ثورة وطنية تستهدف بناء الإنسان فقد كانت هناك حركة ثقافية وفنية وإعلامية قادها رموز من الوطنيين البارزين أمثال ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم ورجالهما ممن بادروا بإنشاء مؤسسات حققت لنا الريادة الفنية والإعلامية والثقافية ورسخت لدور القوى الناعمة المصرية في محيطها العربي.
غير أن أهم  نجاح حققته تلك الثورة هو أن تجد مؤمنين بها ومدافعين عنها عنها بعد مرور سبعين عامًا من قيامها، والمدهش أن أنصار ثورة يوليو ليسوا فقط من السياسيين ولكنهم من الأكاديميين الموضوعيين بل ومن المواطنين العاديين.
وهؤلاء وأولئك يتغنون إلى اليوم بمنجزات تلك الثورة ليس تملقًا لأحد من قادتها ولا نفاقًا لأي من صناعها الذين رحلوا جميعًا إلى رحاب خالقهم ولكنها كلمات حق عرفانًا بجميل قادة الثورة من العسكريين وصناع نجاحاتها من المدنيين.