رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من أجل رقيقة إلكترونية.. بيلوسى تركب الأخطار

يخطئ من يظن أن زيارة نانسى بيلوسى، رئيسة الكونجرس الأمريكى، إلى تايوان جاءت دعمًا لهذه الجزيرة القابعة فى وسط المحيط، ويخطئ من يظن أن المخاطر التى كانت تحوط برحلتها إلى هذه الجزيرة إنما هى لدعم قيم الديمقراطية، بعيدًا عن النظام الصينى الحاكم فى بكين.. بل إنها زيارة كانت تستهدف المصلحة الأمريكية، وضرورة حيازة واشنطن على النسبة الأعظم فى العالم من صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، عبر تايوان واليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية.. بعد أن أصبح واضحًا أن أزمة الرقائق الإلكترونية دخلت فى مرحلة جديدة أكثر خطورة من أنها أشعلت أزمة اقتصادية فى العديد من الصناعات، وبدأت تدخل فى مرحلة من الصعب تخطيها الآن.. لقد أشعلت أزمة سياسية بين القوى العظمى، أمريكا والصين، وقد يتطور الموضوع لأزمة عسكرية مع الصين، قد تنتج عنها حرب عالمية ثالثة.

ولكن أولًا: ما هى الرقائق الإلكترونية؟.. وكيف بدأت الأزمة الحالية التى أصبحت عالمية؟

تتكون الشريحة الإلكترونية من مكونات، مثل الترانزستورات والمقاومات والصمامات الثنائية، والتى توجد جميعها فى لوحة صغيرة واحدة تصنع من السيليكون، هذه اللوحة تتكون من العديد من الطبقات المعقدة، من رقائق أشباه الموصلات والنحاس ومواد أخرى.. وتحتوى الشريحة الواحدة أو الرقاقة الواحدة، فى أغلب الأحيان، على مليارات المكونات، فى مساحة صغيرة جدًا.. وهذه الشريحة أو الرقاقة الصغيرة تتحكم فى كل ما هو إلكترونى على هذا الكوكب.

فى مارس ٢٠٢٠، أُغلقت المصانع فى أغلب دول العالم، فى خطوة للسيطرة على تفشى فيروس كورونا، ومع استمرار الإغلاق لأسابيع مع وجود «الحظر» ارتفع استهلاك العالم أجمع من الإلكترونيات مثل البلايستيشن والموبايلات والأجهزة الإلكترونية المختلفة والتليفزيونات.. ومع الإغلاق، انخفضت الإلكترونيات الاستهلاكية فى الأسواق، وبعد أن عادت المصانع للعمل مرة أخرى، استولت شركات الإلكترونيات على كل الرقائق الموجودة فى السوق، إلى جانب شرائها حصص شركات السيارات التى ألغتها وقت إغلاق المصانع.. وحجزت الشركات أيضًا كميات كبيرة من هذه الرقائق، فأصبحت السوق بلا رقائق أو ما يعرف بالـElectronic Chips، وأغلب الإنتاج الجديد يذهب إلى شركات صناعة الموبايلات وأجهزة البلايستيشن والتليفزيونات وباقى السلع الإلكترونية الاستهلاكية، فأدى ذلك إلى أزمة الرقائق التى بدأت تظهر بوادرها فى ديسمبر ٢٠٢٠ فى الصين، عندما أعلنت شركة «فولكس فاجن» عن انخفاض مخزونها من الرقائق، وعدم توافرها فى السوق، حتى أصبح الآن إنتاجها ووجودها فى السوق منخفضًا بشكل كبير، وأعلنت مصانع سيارات عديدة عن توقف الإنتاج لنهاية العام بسبب عدم وجود رقائق، وأيضًا ارتفاع أسعارها بنسبة ٦٠٪، بعد أن كان سعر الشريحة الواحدة لا يتعدى دولارًا واحدًا.

وأصبح العالم الآن فى أزمة اقتصادية عالمية بسبب عدم توافر السيارات الجديدة فى الأسواق، وانخفاض الإنتاج العالمى منها.. وبدأت هذه الأزمة تؤثر بشكل كبير على إنتاج الموبايلات فى كبرى الشركات العالمية، حيث أعلنت شركة «آيفون» عن انخفاض إنتاج هاتفها الجديد حوالى ١٠ ملايين جهاز.

لكن.. كيف تهدد هذه الأزمة العالم سياسيًا؟

فى الفترة الماضية، طلبت أمريكا من تايوان- المسيطر الأول على سوق الرقائق -بيانات رسمية عن إنتاجها من الرقائق.. وفى حين أن الطلب كان طوعيًا، إلا أن وزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، حذرت ممثلى الصناعة فى تايوان من أن البيت الأبيض قد يستدعى قانون الإنتاج الدفاعى أو أدوات أخرى لفرض يديه إن لم يستجيبوا.. ولكن شركة TSMC التايوانية، التى تتحكم فى أكثر من ٦٠٪ من سوق الرقائق، رفضت الاستجابة لهذا الطلب، ورفض باقى الشركات التايوانية، وهذا من شأنه قد ينذر بأزمة سياسية أمريكية تايوانية.. لكن، بعد ذلك، بدأت الصين فى حشد قواتها الحربية على حدود تايوان، وبدأت فى تدريبات ميدانية عسكرية على الحدود التايوانية، بعد أن فشلت كل المحاولات لحل أزمة الرقائق الإلكترونية.. وفى أوائل أكتوبر الماضى، بدأت أمريكا تتدخل لتدريب قوات تايوان لصد هجوم محتمل عليها، حيث أبلغت تايوان عن تحليق ٣٨ طائرة عسكرية صينية فى منطقة الدفاع الجوى التايوانية، وكان أكبر اختراق تشنه بكين.. وحذر الجيش الأمريكى من أن الصين تستعد لغزو الجزيرة التايوانية.. والذى لا يأتى بالقوة الأمريكية، يأتى بالحيلة الدبلوماسية، ووعود الحماية لتايوان من عدوها المتربص لالتهامها.. بكين.. لماذا؟

لا تزال الرقائق الدقيقة هى المحرك الرئيسى للتقدم فى كل المجالات، من الهواتف الذكية وحتى الصواريخ فرط صوتية.. وهى أيضًا مدمجة بشكل متزايد فى الأجهزة المنزلية.. حتى السيارات الأكثر تكلفة فى السوق تحتوى الآن على مئات الرقائق الدقيقة، ويتم تحميل السيارات الكهربائية أو الفاخرة بالآلاف من هذه الرقائق.. كل هذا أدى إلى النظر للرقائق على أنها سلعة تُمثل حجر الأساس للاقتصاد الرقمى الجديد، وأى بلد يتحكم فى إنتاج الرقائق يمتلك مزايا رئيسية على المسرح العالمى.

وحتى وقت قريب، كانت الولايات المتحدة واحدة من تلك الدول.. ولكن فى حين أن الرقائق لا تزال مصممة إلى حد كبير فى أمريكا، إلا أن قدرتها على إنتاجها انخفضت بشكل حاد إلى ١٢٪ فقط من إنتاج الرقائق الدقيقة فى العالم، بعد أن كان ٣٧٪ فى عام ١٩٩٠.. تنخفض هذه النسبة أكثر عندما تستبعد الرقائق «القديمة» ذات المساحات الأوسع بين الترانزستورات، ويتم تصنيع الغالبية العظمى من رقائق «حافة النزيف» فى تايوان، ومعظم المصانع غير الموجودة فى تلك الجزيرة تقيم فى دول آسيوية، مثل كوريا الجنوبية والصين واليابان.

ولفترة طويلة، كان عدد قليل فى واشنطن قلقًا بشأن الإنتاج الضعيف للرقائق فى أمريكا، حيث التصنيع المُكلّف فى الولايات المتحدة، وكان نقل الإنتاج إلى الخارج، إلى آسيا، مع الحفاظ على البحث والتطوير فى الولايات المتحدة، وسيلة جيدة لخفض التكاليف.. غير أن شيئين غيّرا من طبيعة الحسابات: جائحة كورونا، والتوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين.. فقد أدى التوقف المفاجئ عن العمل، الناجم عن انتشار الفيروس فى آسيا، إلى ارتباك سلاسل التوريد العالمية، وتوقف تدفق الرقائق الدقيقة بين عشية وضحاها تقريبًا، رغم الكفاح من أجل إعادة التشغيل فى ظل طفرات كورونا الجديدة والظواهر الجوية المتطرفة، والارتفاع الحاد فى الطلب على الإلكترونيات الدقيقة، واضطراب التصنيع الذى أدى إلى نقص فى الرقائق.

حتى قبل كورونا، دفع العداء المتزايد بين واشنطن وبكين المسئولين الأمريكيين إلى التشكيك فى حكمة التنازل عن إنتاج الرقائق لآسيا، وتسببت تهديدات الصين المتزايدة ضد تايوان فى استحضار البعض سيناريوهات كابوسية لغزو أو حصار من شأنه أن يفصل الغرب عن إمداداته من الرقائق، كما ضخت الحكومة الصينية مليارات الدولارات فى برنامج لتعزيز صناعة الرقائق الخاصة بها، مما أثار مخاوف من أن أكبر خصم أجنبى لأمريكا قد يربك الأسوق يومًا ما.

والآن.. يقر الكونجرس الأمريكى قانونًا يسمح باستجلاب العمالة الأجنبية المؤهلة فى صناعة الرقائق إلى الولايات المتحدة، لتوطين الصناعة، لأن خريجى الجامعات هناك ما زالوا قاصرين عن التصدى لهذه الصناعة الدقيقة والعملاقة.. وليس أكثر من تايوان واليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية مصدرًا مهمًا لهذه العمالة، فضلًا عن محاولة واشنطن إقناع تايبيه بالموافقة على نقل صناعة هذه الرقائق إلى الولايات المتحدة، ولكن تايوان تكون قد فقدت واحدة من أهم أوراقها لوقوف واشنطن إلى جانبها فى مواجهة الصين.. ولهذا كانت الرحلة الخطرة لبيلوسى إلى تايوان.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.