رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جيمس ويب وخلخلة الغرور البشرى

جيمس ويب هو اسم مدير وكالة «ناسا» للبحوث الفضائية فى فترة الستينيات، أيام إطلاق أول رحلة بشرية خارج كوكبنا الأزرق الجميل.

وهو من ترأس ووضع برنامج «أبولو» الذى كان يرمى لصعود رواد الفضاء لأول مرة فى التاريخ على القمر. 

وجيمس ويب لم يكن رائدًا للفضاء أو مهندسًا، ولكنه هو وإدارته ووكالة «ناسا»، التى يديرها، صنعوا طفرة فى علوم الفضاء وخطوة أساسية فى طريق استعمار البشر للفضاء.

لكل هذا اختارت وكالة «ناسا» تخليد اسمه بإطلاقه على هذا التليسكوب الجديد ذى الإمكانيات الهائلة التى تفوق تليسكوب «هابل» بأضعاف مضاعفة، رغم صغر كتلته عن «هابل» بنحو النصف تقريبًا.

ولا يخفى عليكم أصدقائى القراء أن هذا الاختراع العظيم سيجعلنا أكثر فهمًا للكون الذى نعيش فيه ويكشف لنا المزيد من أسراره، وسيمهد الطريق للحضارة البشرية للامتداد فى الفضاء الفسيح، والخروج من ضيق أفق شمسنا الجميلة نحو استعمار حقيقى للفضاء نرجو أن يكون رشيدًا ونافعًا للجنس البشرى كله. 

وكعادة بعض دراويش الخرافة فى لصق أى اكتشافات علمية بنصوص دينية جاءت فى سياقات تاريخية مخالفة تمامًا، يحاول بعض أصحاب وهم الإعجاز العلمى فى نصوص العصور الوسطى والقديمة توظيف مكتشفات وصور تليسكوب «جيمس ويب» بنصوص دينهم، ويفعل هذا للأسف بعض الهندوس والبوذيين وكثير من أتباع الأديان الإبراهيمية، خصوصًا الحركات الأصولية فى الشرق الأوسط المنكوب بتلك التيارات الظلامية الجاهلة العنصرية.

من ناحية أخرى، يحاول البعض جعل تلك الاكتشافات داخلة فى الصراع اللاهوتى حول وجود آلهة أو إله فى الكون أو عدمه، وكلهم مخطئ من وجهة نظرى، سواء اللاهوتيين أو الملحدين، فليس لاكتشافات وصور التليسكوب صلة بذلك من قريب أو بعيد.

وإذا كانت ثمة فائدة إنسانية للجنس البشرى مستوحاة من تلك الصور بعيدة عن علوم الفضاء ومستقبل الإنسان فهى رسالة من تليسكوب «جيمس ويب» للجنس البشرى بأن يتواضع ويعلم أنه ليس مركز الوجود.. ونعلم أن كوننا به آلاف المليارات من نجوم مثل شمسنا وأكبر، ويدور حول الكثير من تلك الشموس كواكب كأرضنا وكواكب مجموعتنا الشمسية، ويحتمل وجود صور من حياة أرقى أو أدنى من حياتنا وتجربتنا.

ومن هنا نعلم خرافة الزاعمين بأن هذا الوجود مصنوع من أجل الإنسان فقط أو من أجل أصحاب عرق محدود من أبناء الإنسان، أو من أجل أتباع مذهب لاهوتى محدود بعقل ساذج، أو من أجل طائفة مخبولة متعصبة تظن نفسها الطائفة المختارة من قبل آلهة السماء.. فكوننا أوسع من ذلك وأرحب، وهو أكبر من كل خيالات المتقدمين والمتأخرين.

إن درس «جيمس ويب» الأول لنا جميعًا كجنس بشرى هو أننا لسنا مختارين ومميزين عن سائر الوجود، فلنتواضع، وهذا لا يعنى أن نشعر بخيبة أمل تجعلنا نحط من قدر التجربة البشرية، كما لا ينبغى لنا أن نغتر بها، فلنكن عقلانيين متوازنين.

ثم إن درس «جيمس ويب» الثانى لنا كجنس بشرى أن نعلم أن مصيرنا كجنس بشرى واحد، وعلينا التضافر والتعاون من أجل جعل الإنسانية أسعد وجعلها أكثر قدرة على توظيف مكتشفات العلوم الحديثة فى صالح الإنسان، كل الإنسان. 

وثالثًا علينا أن نعرف أن ما وصلنا إليه هو حصاد قرون من تراكم المعرفة العلمية، فلنحترم تاريخنا ونشكر أجدادنا الذين أسهموا فى مسيرة العلوم حتى وصلنا للعلوم الحديثة، التى هى أكبر إنجازات البشرية التى نرجو لها المزيد من التقدم والكثير من الرشد وخدمة الإنسان، كل الإنسان. 

وكذلك علينا أن نحترم خيال أجدادنا من العصور القديمة السحيقة وما قبلها، وأيضًا أجدادنا بالعصور الوسطى الساذجة التى تصورت العالم محدودًا لخدمة الإنسان فقط من أجل مشروع خرافى موهوم يقول به كل صاحب مذهب ضيّق أو طائفة متعصبة محدودة إنها هى هدف الوجود كله، فخيالهم الساذج والبسيط هو من ألهم العلماء للبحث من أجل البحث فى مصداق تصوراتهم، فحفزنا على اكتشاف الكثير من حقائق الوجود المتطور.

ونحن أيضًا مدينون لخيالات رجال اللاهوت وكهنة الأديان، كما نحن مدينون لخيال الأدباء والشعراء والفنانين.. وقبل الجميع، للعلم الحديث وعلمائه الذين نرجو أن يتم توظيف جهودهم وعقولهم من أجل إنسانية واحدة أكثر سعادة وعدلًا ورحمة وحبًا.