رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحب من غير أمل

قبل أسابيع قليلة صدر لصديقى الروائى والصحفى الموهوب أشرف عبدالشافى كتاب لطيف، عنوانه «أن تحب فى العشرين»، وهو عبارة عن مجموعة نصائح عاطفية ومعرفية ذكية «للنابهين من الذكور». 

يومها هاتفته ممازحًا: «وماذا يفعل من تجاوزوا الخمسين يا صديقى؟ نحن أيضًا بحاجة إلى كتاب مماثل، لعل أمثالى يستفيدون بنصائح خبير متمرس من مثلك»، فارتفعت ضحكته وهو يردها فى صدرى: الكتاب ده تكتبه إنت، بس يبقى عنوانه «الحب من غير أمل»، فهو يعرف جيدًا أنه لم يبق لى غير أشهر معدودة حتى أغادر عامى الخامس والخمسين، ولا أظن أننى طوال هذه السنوات التى فرت من بين أصابعى ناصبت أحدًا العداء، أو حتى الخصومة العابرة، خصوصًا من كان لى نصيب الوجود معهن فى قصة حب لم تكتب لها الحياة أن تستمر، أو استمرت إلى حين، أو انتهت إلى «خيبة ثقيلة»، وربما كانت معرفته تلك هى سر ضحكته العالية. 

والحقيقة أننى منذ هذه المهاتفة السريعة أفكر فى الأمر بجدية، إذ يبدو لى أن هناك خيبة أشد ثقلًا قد أصابت الرجال فى السنوات الأخيرة، وفى كل الأعمار، تحت العشرين وفوق الثلاثين، فى الحادية والأربعين، وفى قلب الخمسين والستين. 

ربما كانت دروس أشرف عبدالشافى تفيد من هم على شاكلة الولد الذى قتل الزهرة البديعة نيرة أشرف، والذى لا أذكر اسمه، ولا أريد، بل إننى أحمد الله على نعمة نسيانه هو وأمثاله، لكن من لهؤلاء الذين تجاوزت أعمارهم الأربعين؟ أو يكملونها خلال أيام؟ أو ماذا يفعل من يتحول معهم الحب من غير أمل إلى «جرسة»، و«فضيحة بجلاجل» ومحاضر شرطة، وبلا أزرق؟

ألا يوجد راشد يعلمهم أصول المحبة فى هذه الأعمار المتأخرة؟ أليس فى محيطهم كبير يقول لهم ويعلمهم أنه ليست هكذا تُستمال النساء؟ ألم يقل لهم أحد إن الحب فى مصر قديم وجميل قِدم الأهرامات ونقوش المعابد، وطقوس الحياة كلها، وإن نساءها عشن ملكات وأميرات وحبيبات، مؤنسات غاليات، منذ أن قالت الأرض أنا هنا؟ وربما كان ذلك هو سر مقولة سنوهى، الحكيم المصرى القديم، بأن «الجمال سكن ديار مصر، وأبى ألا يبرحها إلا على جناح الحب»، ففى مصر نُسجت وقائع أول قصة حب مأساوية فى التاريخ، تجد فصولها فى أسطورة إيزيس التى عاشت تبحث عن عظام زوجها المقتول غدرًا، أوزوريس، فى ملحمة عظيمة لتجسيد معانى الوفاء والإخلاص والمحبة المتبادلة، وغيرها عشرات النقوش على جدران المعابد والمقابر والجداريات التى توثق احتفاء المصرى القديم بمحبوبته.. ومنها قصة حب الملك أمنحوتب الثالث وزوجته الملكة تى التى اختارها من بين عامة الشعب، على الرغم من أن ذلك الزواج كاد يهدد عرشه، ومنها قصة عشق إخناتون لزوجته نفرتيتى، وهى القصة التى ترى معالمها فى العديد من المنحوتات والنقوش التى تصور مشاهدهما معًا أثناء إعداد الطعام والرقص والغناء، ومنها أيضًا ما قيل من أن رمسيس الثانى كان يصف زوجته الأولى نفرتارى بأنها «حتحور» ربة الحب والجمال، وأنه شيد من أجلها معبد أبوسمبل.

فإذا غادرت وادى الملوك وذهبت إلى عامة الشعب ستجد مقبرة «كاهاى»، مطرب البلاط الملكى وزوجته «ميريت إيتس» إحدى كاهنات معبد آمون، والتى تحتوى على نقوش تسجل لحظة تحديق الزوجين فى أعين بعضهما البعض، وهما يتبادلان مشاعر الحب، كما تسجل مشهدًا تضع فيه الزوجة يدها اليمنى على الكتف اليمنى لزوجها تعبيرًا عن الاحتواء والحنان، وهى القصة التى قيل إنها «أجمل قصة حب عرفها التاريخ القديم».

ولم تخلُ البرديات الفرعونية من سرد قصص العشاق، التى تظهر معاناة الأحبة إذا غاب الحب أو تخاصم الطرفان، ومنها قصة الفتاة «أيزادورا» ابنة حاكم أنتيوبوليس «المنيا حاليًا»، التى أحبت ضابطًا فقيرًا ضمن قوات حراسة مدينة «خمنو»، ولم يمنعها فقر «حابى» من مواعدته ومقابلته سرًا لمدة ثلاث سنوات، لكن اعتراض أبيها على زواجهما، وسجنه لها، دفعها للهروب من السجن والذهاب لوداع حبيبها، فسقطت فى النهر وهى فى طريق عودتها من لقائه، فأعلن أبوها ندمه الشديد لما فعله بها، وبنى لها مقبرة تاريخية فى منطقة تونة الجبل وكتب فيها قصيدة رثاء ودوّنها على جدران مقبرتها.

وإذا ما تحركت باتجاه العصر الحديث، ستجد أن حسن المغنواتى الفقير أحب نعيمة ابنة الحاج متولى صاحب الأراضى والأطيان والأموال، وأحد أعيان القرية، ولكنه عندما رفض الأب زواج ابنته من «المغنواتى»، ساندها وتحدى أبيها، فوقفت إلى جانبه وغادرت القرية لتعيش مع أم حسن فى قريته، إلى أن لان والدها ووعدها بالموافقة على زواجها من حسن إذا عادت للحياة معه فى قريته.

والحقيقة أنه ربما يختلف التعبير عن الحب من بلد إلى آخر ومن ثقافة لأخرى، فإذا أردت المقارنة مع أقرب الثقافات إلينا، جغرافيًا على الأقل، ستجد أنه على طول تاريخ الجزيرة العربية تتوارث الأجيال قصص الحب غير المكتمل، أو حكايات الحب دون أمل، ويقال إن القصة الوحيدة التى انتهت بالزواج تدخل فيها الخيال الشعبى بالإضافة والحذف، فالثابت أن عنترة بن شداد لم يستطع الاقتراب من ابنة عمه عبلة بنت مالك رغم ما أظهره من بطولة فى حرب «داحس والغبراء»، وتدخلت الأسطورة لتجعله ينتصر على الرياح السموم وصحراء الربع الخالى، ويتمكن من جلب مائة من النوق العصافير من النعمان ملك العراق ليدفعها مهرًا للمرأة التى تواترت حكايات عن خيانته لها فيما بعد، بينما كان أقصى ما ناله قيس بن الملوح من ابنة قبيلته ليلى بنت ربيعة العامرية أنه كان يمر على ديارها فى نجد، فلما زوجها أبوها لرجل من الطائف، هام فى الجبال، وأخذ يطارد التلال والتخوم، ويمزق الثياب وصولًا إلى الجنون، والعثور عليه ميتًا بين الأحجار، أما جميل بن معمر فلم ينله من حب بثينة سوى الشتات بين المرابع، واللف خلف آثارها، من اليمن إلى وادى القرى إلى الشام، ثم حين أصابه اليأس من اللقاء جاء إلى مصر ليموت فيها على حبه المقبور، وهو ما تكرر مع كثير الخزاعى وعزة الكنانية، على أن الحب الناقص لم يكن مقصورًا على الرجال، فهناك أيضًا قصة توبة بن الحمير وليلى الأخيلية، والبطولة فى هذه القصة كانت لليلى التى ذاع شعرها فى التغزل بابن الحمير، والذى قتل فى إحدى مرات سطوه على القوافل، وقيل إنها سقطت من هودجها بجوار قبره فماتت إلى جواره.

الحقيقة أننى لا أعرف السر فى فتنة القبائل العربية بحكايات الحب من طرف واحد، أو الحب من غير أمل، حتى إن أجمل أغانى المطرب الكبير محمد عبده التى يتداولها الجميع بشغف، هى تلك التى تتحدث عن اشتياق الأماكن لحبيب قرر أن يغادر، والحنين «اللى سرى بروحى وجالك».. لكن، على أى حال، فهذه هى الدنيا، وهذه هى مصر التى علمت الدنيا كل شىء.. بما فيها قواعد المحبة، أعظم طريق عرفته البشرية لتهذيب النفوس الغاضبة وترويضها.. حتى الحيوانات يتم استئناسها بالمحبة والملاطفة، أو «باللين والهوادة والمحبة والأبوة».. كما قال العظيم حسن مصطفى فى مسرحية «مدرسة المشاغبين».