رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أنا يوسف شاهين».. أربعة أفلام عبرت عن رؤية المخرج لنفسه ولمصر فى زمنه

يوسف شاهين
يوسف شاهين

بالأمس كانت الذكرى الرابعة عشرة لرحيل المخرج الكبير يوسف شاهين (١٩٢٦-٢٠٠٨) الذى رحل بعد حياة حافلة بالإبداع قدم خلالها ٤٤ فيلمًا من أهم أفلام السينما المصرية، حصد خلالها جوائز مصرية ودولية، كان أهمها جائزة الإبداع من مهرجان كان.. مر شاهين بمراحل سينمائية متعددة، كان أهمها المرحلة الذاتية التى قدم خلالها عدة أفلام تداخلت فيها سيرته الذاتية مع نظرته للحياة والمجتمع فى أزمنة مختلفة.. فى هذا التحقيق نستعرض أهم أفلام السيرة الذاتية فى حياة شاهين.

«إسكندرية ليه؟» سؤال المواطنة

جملة قالها الفنان الراحل الكبير نور الشريف فى لقاء له متحدثًا عن المخرج يوسف شاهين، ولكن قبل أن نسأل لماذا قال فنان بحجم نور الشريف هذه الجملة فى حق مخرج لم يعمل معه سوى فى فيلمين، أرى أنه يجب أن أذكر أن نور الشريف فى يوم ما ذهب إلى يوسف شاهين وقال له إنه سينتحر إذا لم يعمل معه. 

وفى ذكرى وفاة المخرج العالمى يوسف شاهين رأيت أن رأى نور الشريف فى سينما شاهين يمكن أن يكون بداية الحديث عن رباعية السيرة الذاتية التى عن طريقها يستطيع المشاهد، لا أن يعرف ويقترب من يوسف شاهين الإنسان قبل المخرج، ولكن يستطيع أن يلمس ويتعرف على أشياء تخص الإنسان، ويواجه أسئلة تتعلق بأحاسيس ومشاعر ومعانٍ مشتركة بين الناس جميعًا، وأيضًا يمكن من خلال تلك الرباعية قراءة أهم الأحداث والتطورات التى حدثت فى المجتمع المصرى والعربى والعالمى، فالأربعة أفلام يوجد منها اثنان فى قوائم أفضل الأفلام فى تاريخ الوطن العربى، وكل فيلم من الرباعية يحاول محاكاة كل هذا، أى محاكاة الكون كله كما قال نور الشريف.

فى الفيلم الأول فى تلك الرباعية «إسكندرية ليه؟» ١٩٧٨، الفيلم الذى كتب السيناريو الخاص به الكاتب الكبير محسن زايد، وعمل المخرج، الذى أصبح كبيرًا بعد ذلك، عاطف الطيب وقتها كمساعد مخرج، بجانب صنّاع لا يقلون قيمة وأثرًا فى صنع الموسيقى التصويرية، وفى التصوير، أردت أن أذكر ذلك لكى ننتبه إلى قيمة صنّاع العمل وموهبتهم قبل أن نخوض فى تفاصيل الفيلم نفسه.

فى الفيلم يعود بنا شاهين إلى فترة الحرب العالمية الثانية، وآثار تلك الحرب على مصر بشكل عام وعلى مدينة الإسكندرية بشكل خاص، فنرى مدينة الإسكندرية كمثال على ما يمكن أن نطلق عليه المدينة «الكوزموبوليتانية»، التى يعيش فيها المسلم بجانب المسيحى بجانب اليهودى، ويعيش فيها الإنسان بمختلف آرائه وتوجهاته وأخلاقه، هنا شاهين وعن طريق إعادة النظر فى مفهوم المواطنة، الذى كثيرًا ما نتحدث عنه اليوم، يطرح أسئلة الحب والمثلية الجنسية والحرب، أى أسئلة الإنسان عبر العصور.

جاء طرح شاهين وقتها، أى وقت صنع الفيلم لمفهوم الهوية الجنسية، كأول الأفلام العربية التى تناولت مثل هذا الموضوع، وربما أول الأعمال الفنية العربية.

ولكن فلنتوقف أمام مفهوم المواطنة، الذى يواجه العادات والتقاليد والظروف التى من صنع البشر، والتى تم التعبير عنها داخل الفيلم عن طريق قصة الحب بين إبراهيم والفتاة اليهودية، فالحب وحده هو القادر على أن يجمع شمل الإنسان، بالرغم من محاولات التفرقة الدينية والسياسية والقومية.

ولأن الفيلم يتحدث ويروى سيرة ومشوار شاهين، كان لا بد من أن نرى شخصية يحيى داخل الفيلم الذى هو بدوره صورة لشاهين، يحيى الشاب الفنان المحب للجمال، والسينما والرقص والموسيقى، من يحلم أن يطير إلى هوليوود ليكون من نجوم العالم، يحيى أو شاهين داخل الفيلم يرى أن الفن الذى هو بدوره صانع للنهضة والحضارة، قادر على إقصاء الاحتلال، أى أننا يمكننا مواجهة الاحتلال عن طريق التثقيف، أى تقديم كل أنواع وأشكال المعرفة إلى الإنسان، وربما هذا أيضًا سؤال نطرحه حتى اليوم. فالفن أيضًا قادر على تقديم البهجة والمتعة والسعادة إلى الإنسان، بالرغم من وجود أسلحة الجيوش التى تعمل على إفناء البشر، وإسالة الدماء.

فى الفيلم يجب أن نتوقف أمام أداء بعض الممثلين، محسن محيى الدين فى دور يحيى واحد من أهم الأدوار وأجملها التى قام بها ممثل مصرى عبر التاريخ، أداء متزن يكاد يصل إلى مرحلة الكمال الفنى، أداء أعطى روحًا للشخصية، ونقل كل تفاصيلها وآلامها ومعاناتها، أداء الجميع داخل الفيلم كان استثنائيًا، ولكن يجب أن نذكر العظيم محمود المليجى الذى قام بدور الأب، والذى استطاع التعبير عن أشياء فى غاية الإنسانية وفى غاية الخطورة بنظرة عين، أو إيماءة، وكذلك الفنانة القديرة محسنة توفيق فى دور الأم، وأحمد زكى فى دور إبراهيم وقصة حبه الاستثنائية التى تنتصر للجمال، جميع الممثلين حقًا كانوا فى حالة استثنائية جديرة بفيلم عاش وسيعيش أبد الدهر، بمشاهد خالدة نستعيدها فى كل موقف وكل لحظة.

«حدوتة مصرية».. رحلة فى قلب فنان

«حدوتة مصرية» ١٩٨٢، هنا نحن أمام الفيلم الذى كان نور الشريف سينتحر لو لم يعمل به، لذلك كان من الطبيعى أن يخرج أداء نور الشريف فى هذا الفيلم بهذا المستوى الرفيع فى دور يحيى.

ويكون دور يحيى من الأدوار المحببة لقلب نور الشريف، فنراه يقول فى لقاء له قبل وفاته بأشهر أى بعد كل هذه المسيرة الفنية الحافلة، إن مشهده وهو يسمع صوت أم كلثوم داخل هذا الفيلم، واحد من أهم المشاهد التى أداها فى تاريخه، بل إنه يعتبر هذا المشهد أهمها، بالرغم من بساطته.

وأنت أيضًا كمشاهد يجب أن تكون على يقين من أنك أمام فيلم ليس كمثله شىء فى السينما العربية، يحمل صورة جديدة على المتلقى العربى وأظن العالمى فى حينها، وسيناريو مكتوب بطريقة غريبة، فيلم ينتصر لقيم جديدة فى الفن من التجريب والخيال، لكننا يمكن أن نعتبر الفيلم بمثابة جولة فى قلب يوسف شاهين، وهو كذلك بالفعل، فكل أحداث الفيلم أو أغلبها يجرى داخل قلب هذا الفنان المهموم بقضايا وطنه وقضايا الإنسان بشكل عام.

لنرى الصعوبات التى واجهت شاهين فى مشواره الفنى، من أزمات صحية ومالية، وتعنت من قِبل بعض المنتجين الذين كانوا يرفضون إنتاج أفلام له، وقصة حب وصراع لتأريخ ما يحدث من خلفية اجتماعية وسياسية.

فهو بمثابة استمرار لطرح نفس الأسئلة التى شغلت شاهين فى الجزء الأول من الرباعية.

لكن ونحن نتحدث عن الفيلم لا بد أن نذكر أن الفنانة سعاد حسنى كانت ستلعب الدور الذى لعبته الفنانة يسرا، وأن نتوقف لنقول إن من شارك فى تأليف الفيلم هو الكاتب الكبير يوسف إدريس، ولا بد أن نتوقف كثيرًا جدًا أمام الأغنية التى بدأ بها شاهين فيلمه، تلك الأغنية التى وضع عبدالرحيم منصور كلماتها، أغنية «حدوتة مصرية» التى يمكن أن نعتبرها بمثابة تعبير عن قضية الإنسان فى الحياة منذ وجوده.

«إسكندرية كمان وكمان».. فلنواجه كل شىء بالرقص

قد يبدو لك للوهلة الأولى عند مشاهدتك فيلم «إسكندرية كمان وكمان» ١٩٩٠، أن شاهين يحكى عن قصة انفصاله عن محسن محيى الدين، وعن تجاربه فى بعض الأفلام، لكن ماذا بعد أن تشاهد أوبريت «اهتفوا باسم الإله» داخل الفيلم؟ ستتأكد أن شاهين لم يتخل عن تصميمه فى محاكاة كل شىء يخصه ويخص الإنسان داخل الفيلم، الأوبريت يعبر بصدق عن أزمات عربية ومصرية خالصة، ويمكن أن ينطلق إلى مدى أوسع.

كذلك الفيلم الذى يعيد فيه شاهين تأويل بعض المصطلحات والمعانى التى أطلق عليها مالك خورى فى كتابه عن شاهين بأنها إعادة تأسيس لمفهوم المثلية، لكنها ليست المثلية القائمة على العلاقة الجسدية والجنسية، لكنه مفهوم من ضمن المفاهيم العامة، التى تخص الإنسان.

الحب، الجمال، البهجة، الرقص، أشياء يقوم عليها هذا الفيلم المبهج الذى يمنح من يشاهده جرعة من الخيال، حتى يكاد يرقص أو يطير.

«إسكندرية نيويورك».. إشكالية الثقافة الأمريكية

فى الفيلم الرابع والأخير من الرباعية «إسكندرية نيويورك» ٢٠٠٤، وعن طريق قصة حب قد تبدو ساذجة، لكنها عميقة، قصة حب عابرة للزمان والمكان، ينتصر فيها الإنسان على الواقعين الاجتماعى والسياسى.

ليعلن شاهين، من خلال الفيلم، عن رفضه القاطع للثقافة الأمريكية التى تقدم إلى الشعوب العربية بوصفها الدواء الذى فيه الخلاص من كل المشاكل. فأمريكا ليست أرض الأحلام، ولا يجب أن تؤثر فى الواقع العربى، هذا ما يراه شاهين الثائر المتمرد.

ولأن شاهين هنا يطرح فكرة ربما شديدة الحساسية، قد تبدو مغايرة لنظرته التى تعتبر الإنسان واحدًا فى كل بقاع الدنيا، لكنها بكل تأكيد ليست مغايرة بل متضامنة ومتوافقة، لأن قصة الحب التى وقعت بين يحيى والسيدة الأمريكية التى قامت بدورها الفنانة الكبيرة يسرا، ومعرفة يحيى أن له ولدًا من صلبه يعيش فى أمريكا وإنكار هذا الولد لأبيه بسبب انتماء أبيه العربى، الذى يجعله فى نظر هذا الجيل الجديد الذى لا يعرف موضعه فى العالم بين أمريكا المتقدمة والعرب المفروض عليهم التخلف والرجعية، ولكن عند شاهين الحب هو الذى ينتصر.

فبعد أن تنتهى من تلك الرباعية ستدرك جيدًا أن ما قاله نور الشريف فى يوم من الأيام، إن شاهين كان يريد أن يحاكى الكون كله فى كل فيلم، بل أضيف إلى ذلك لأقول إن شاهين كفنان كان مدركًا للغاية معنى مفهوم السينما، الذى يعتبر فنًا جامعًا لكل أشكال الفنون الأخرى، لذلك لا بد أن ترى فى أفلام شاهين أداءً مسرحيًا، ورقصًا، وغناءً وموسيقى، ورسمًا، يتجلى كل ذلك فى التعبير عن الواقع والحياة والكون، وكل ما يمكن من خلاله التعبير عن الإنسان.