رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحالة المصرية

يقول أفلاطون، أحد أهم الفلاسفة على مر التاريخ، تخيّل أنك في سفينة ضخمة على متنها عدد كبير من المسافرين، بالإضافة إلى قبطان وبعض البحارة الخبراء القادرين على قيادتها إلى بر الأمان.
وفي الوقت نفسه، قرر الركاب أن يتبعوا نظاماً ديمقراطياً في قيادة السفينة، بحيث يتم أخذ رأي الأغلبية في كيفية توجيه الدفة ومواجهة العواصف والأمواج العاتية.
وتبعاً لهذا النظام الجديد تولدت بعض المعضلات التي تهدد حياة الجميع، وبينما يستطيع بعض الركاب المجيدين للبلاغة والخطابة لكنهم غير خبراء بأمور الإبحار أن يوجهوا معظم الركاب للتصويت على قرارات غبية، يفشل القبطان الخبير في إدارة السفينة في إقناع الناس برأيه فقط لأنه لا يمتلك قدرة كافية كالآخرين على الإقناع.. سفينة كهذه في الغالب سوف تهوي إلى أعماق البحر أو ستظل هائمة على وجهها إلى ما شاء الله وسط الأمواج والعواصف.

والحقيقة أن أفلاطون لم يكن وحيداً في هذا الرأي أو هذا الهجوم، بل تبعته في ذلك مجموعة من أهم المفكرين.
في كتابه "قضية مرفوعة ضد الدولة الديمقراطية"، يحدّد الفيلسوف الأيرلندي جوردون جراهام ثلاث خصائص للديمقراطية، أولاها قدرة أفراد الشعب على أن يملوا على السياسيين الكيفية التي سيحكمونهم بها، والثانية قابلية أكبر عدد من الناس للمشاركة في الانتخابات، أما الخاصية الثالثة فهي أن يكون لكل شخص من أفراد الشعب البالغين «عدا السجناء والمجانين» الحق في الإدلاء بصوته وتالياً القدرة على المشاركة في الحياة السياسية بغض النظر عن المؤهلات الثقافية أو العقلية التي يحملها.. ويعزو جراهام أهم مساوئ الديمقراطية إلى هذه الخاصية الثالثة.
يقول جراهام: "إن الفكرة التي قدمها أفلاطون عن سفينة الحمقى تثبت أن الديمقراطيات القديمة أو الحديثة تحتوي في داخلها على مشكلات غير قابلة للحل، حيث إن مشاركة جميع الأفراد في الحياة السياسية تعني أنه لا بد أن يمتلكوا جميعهم نفس مستوى الذكاء والوعي والخبرة بالأساليب المثالية للحكم حتى يمكنهم الاختيار على هذا الأساس، هذا بالإضافة إلى اتفاقهم على نفس الاهتمامات السياسية في كل مرة يدلون فيها بأصواتهم، وهو الشيء الذي يستحيل تحقيقه عملياً، ويجعل من الحكم أداة في أيدي عصبة من الجهلاء وعديمي الخبرة".

ويناقش جراهام في كتابه المذكور نوعين من الديمقراطية، أولهما هو "الديمقراطية الاجتماعية" وهي، برأيه "تعكس قدرة أغلبية الشعب على اتخاذ القرار أياً كان نوعه.. فإذا صوتت الأغلبية على سبيل المثال على قتل مليون شخص فإن الحكومة سوف تكون ملزمة من واقع المبادئ الديمقراطية بقتل هؤلاء أو على الأقل بمحاولة قتلهم".
أما النوع الثاني من الديمقراطية الذي يقدمه جراهام فهو "الديمقراطية الليبرالية" التي تطبقها معظم دول أوروبا وأميركا اليوم، وهي نظام الحكم الذي تخضع فيه الحكومة لرأي الأغلبية على ألا يضر هذا الرأي بالحريات الشخصية للأفراد وحقوقهم، من حرية المعتقد والتعبير عن الرأي بأيّة وسيلة سلمية مهما كان نوعها إلى حق الملكية.. باختصار هو نوع الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان وتمنع الأغلبية- على الرغم من حقهم في اتخاذ القرار- من الفتك بالأقليات.
وبرغم أن الفيلسوف الأيرلندي يعترف بأن هذا النظام يعكس أفضل نظريات الحكم التي عرفها العالم على مر التاريخ، لا يمنع ذلك من وجود بعض العيوب الجوهرية، أولها العيب التقليدي الذي أشارت إليه نظرية أفلاطون، وثانيها قابلية هذا النوع من الديمقراطية للتحول إلى النوع السيئ لأن الضمانة الوحيدة لحمايته الحريات هى احترام الحاكم حقوق الإنسان وقدرة مؤسسات المجتمع المدني على الدفاع عنها، وهو ما يمكن الإخلال به في أي وقت أو حتى تزييفه في ظل رضا الأغلبية عن هذا الخلل.

وكانت الكاتبة سوزان روم أكرمان قد تحدثت في كتابها الصادر عام 2003 بعنوان "الفساد والحكم" عن بعض العيوب في النظام الديمقراطي، وهي تتلخص في قدرة الفساد على التفشي فيه دون وجود أدوات عملية على أرض الواقع تستطيع منعه بالشكل الكافي.
الفكرة تتلخص في قدرة المؤسسات المالية الضخمة على التلاعب بأصوات الناخبين من خلال دفع الرشى الانتخابية أو تمويل الحملات الانتخابية لمرشحين لمناصب سياسية مهمة.

وجميعنا يعرف كيف يحتاج حزب ما أو شخص ما ينوي الترشح لمنصب سياسي إلى تمويل حملته الانتخابية، وهذا يفتح الطريق للمال السياسي- بطرق غير قانونية- وقد يتحمل عبء توفيره الأثرياء مقابل ضمان ولاء السياسيين الآتين من صناديق الاقتراع لهم.

وبالإضافة إلى كل ما سبق يمكننا أن نتخيل أيضاً كيف يمكن أن تتحكم رءوس الأموال بالمؤسسات الإعلامية من أجل تزييف وعي الجماهير، لتكوِّن في النهاية تياراً من الرأي العام يتوجه بدوره للتصويت على قرارات تصب في مصلحة فئة تمتلك كماً أكبر من المال.

كل ما سبق يتم ربطه بالحالة المصرية، وموروث ثقافة الحكم لدى الشعب الذي يمثل جزءًا من تكوين واستمرار الدولة المصرية إلى وقتنا هذا، فهناك ثلاثي مشترك في إدارة الدولة المصرية عبر فجر التاريخ، وهم: فرعون والأمن والمعبد، ذلك الثلاثي أيضا هو المكون الرئيسي للحياة الاجتماعية المصرية، ومن ثم تأثيره الكبير على مكونات تلك الشخصية، أيضا كل ذلك يجعل مفهوم الديمقراطية بمعناها الاجتماعي والليبرالي غير قابل لتطويع الشخصية المصرية في الوقت القريب، ولذلك يجب أن يعي أصحاب أصوات تطبيق نظريات الديمقراطية في الحالة المصرية، كما قال عنهم أفلاطون، أنهم ركاب سفينة تلطمها الأمواج وهناك قبطان ومعه مجموعة من البحارة الماهرين يقودونها إلى بر الأمان، تلك الأصوات تنادى بالديمقراطية لتداول قيادة تلك السفينة بين ركابها، ولكن ركاب سفينة مصر يرفضون أصواتهم ويتمسكون بالقبطان والبحارين الماهرين ليصلوا بالسفينة إلى بر الأمان.