رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«هيكل والإخوان».. قراءة المستقبل فى درس التاريخ

على كثرة من تحلقوا حول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل خلال حياته العامرة، من كتاب وصحفيين ومثقفين وسياسيين، على ندرة ما تناولته أى كتابات بعد رحيله، أو طوال فترة بقائه بيننا بحيادٍ وموضوعية، أو حتى برغبة فى معرفة ما جرى على أمل قراءة ما يمكن أن يحدث فى المستقبل.

ورغم ندرة تلك الكتابات فإنها تميزت جميعها بالولاء التام أو العداء التام، لا أحد تعامل مع تاريخ الرجل وتراثه الثرى بما يليق به من بحث ودراسة، وتعمق، أو حتى بمجرد القراءة السريعة، وربط الأحداث والمعطيات، أو إعادة سرد ما جرى بعين محايدة، مخلصة للتاريخ، وللحقائق والأحداث التى مرت بها مصر والمنطقة العربية، وكان الرجل جزءًا فاعلاً ومؤثرًا فى مكوناتها، إن لم يكن مشاركًا فى صناعتها، وبلورة أفكارها، وصياغة معالمها.

بين هؤلاء الذين عاشوا يملأون الحياة كلامًا عن قربهم من «الأستاذ»، وانفرادهم بالحديث معه وإليه وبحضوره، حتى عرفهم الوسط الصحفى بلقب «دراويش هيكل»، ثم صمتوا تمامًا بعد رحيله، يبرز كتابان للكاتب الكبير الدكتور محمد الباز، أظن أنهما من أهم الكتب التى أخلصت للبحث فى حياة الرجل، وقراءة ما عاش له، وما شهدته مسيرته من مشاق، وتقاطعات، ومواجهات، ووثائق، ولقاءات، وتأثيرها على مستقبل الحياة فى مصر، على الرغم من أنه لم يكن يومًا من بين هؤلاء «الدراويش»، وربما لم تجمعه به غير لقاءات معدودة، ومحددة، لكنها كانت كافية بالنسبة لرجل أكاديمى، يعرف أهمية البحث والدراسة، لكى «يذاكر» حياة الرجل، وأعماله، ومواقفه، ويعيد صياغتها بما يناسب صناعة المستقبل، ودروس التاريخ. كان أولهما كتابه المهم «هيكل.. المذكرات المخفية.. السيرة الذاتية لساحر الصحافة العربية»، والذى صدر عن دار «ريشة» منذ عامين، واعتمد على وصية مباشرة من هيكل نفسه، وإن جاءت بعباراته المشبعة بتراث الأدب العربى ومجازاته، أو بطريقته هو الشخصية فى الإيحاء لمن حوله بما يريد دون تصريح صريح ومباشر، وهى الوصية التى أشار إليها الباز فى مقدمة كتابه قائلًا: «فتشت فى أوراقى فعثرت على سر وضعه أمامى يوم طلبت منه تسجيل مذكراته الشخصية.. فى أحد حواراته الصحفية قال: لست متأكدًا أن أحدًا منا بقادر على مواجهة الناس بالحقيقة كاملة غير منقوصة، لأننا بشر، ومن هنا تندهش لو قلت إننى أترك حياتى للآخرين، لماذا؟ لأن من يعملون فى العمل الصحفى بالتحديد، كل مواقفهم وكل أعمالهم وكل آرائهم وكل مشاكلهم وكل تطورات حياتهم ومراحلها موجودة ومسجلة على ورق، وهذه مهمة آخرين يستطيعون المتابعة والحكم.

اعتبرت ما قاله هيكل وصية، وهنا مجرد محاولة لتنفيذها بطريقة لا تفارق منطقه ولا تبتعد عن أرضه».

وهو ما كان، وكانت لدينا وثيقة مهمة عن حياة الرجل، كتبها بقلمه، وحكى عنها بنفسه، وروى تفاصيلها بلسانه، ونقب عنها الباز بإبرة، وجمعها من كتبه، وحواراته، ولقاءاته الصحفية والتليفزيونية، بجهد بحثى يليق بالكاتب والمكتوب عنه.

ثانى هذه الكتب «هيكل والإخوان.. كتاب الاعترافات والمواجهات»، الذى صدر منذ أيام عن دار «بتانة للنشر والتوزيع»، وهو الكتاب الذى يرصد تفاصيل العلاقة الملتبسة والمعقدة، والمواجهات التى جرت بين «الأستاذ والجماعة المنبوذة»، بما فيها من وقائع مهجورة، وحقائق مخفية، من صدامات، وجلسات، ووثائق وحكايات، بداية من عرض حسن البنا، مؤسس التنظيم، على هيكل الانضمام إلى فريق عمل الجريدة، التى كان يخطط لإصدارها عام ١٩٤٦، ورفضه القاطع لذلك العرض، وصولًا إلى مشاركته الفاعلة والقوية فى إزاحة حكم الجماعة الإرهابية عندما خرج عليها الشعب فى ٢٠١٣، من منصة الكشف المطلق لها، ولما كانت عليه، وما أصبحت فيه، وما كانت تريد أن تكونه.

ربما كانت الخلاصة، التى انتهى إليها الدكتور محمد الباز فى كتابه، تخص تاريخ ومستقبل الحياة السياسية والاجتماعية فى مصر، وهى بطبيعة الحال نتيجة منطقية لكتاب بحثى أكاديمى يرصد من أحداث التاريخ ومعطياته ما ينير الطريق إلى المستقبل، خصوصًا ما يتعلق برحلة وجود «جماعة الإخوان المسلمين»، الجماعة الإرهابية، والتنظيم «الأغبى» والأشرس فى تاريخ مصر الحديثة، وهى النتيجة التى يقول عنها فى مقدمة كتابه: «ولأن لكل كتاب دليل، فدليل هذا الكتاب خلاصتان يمكن أن نضع أيدينا عليهما من واقع تجربة هيكل مع الإخوان.

الخلاصة الأولى.. أن الجماعة الإرهابية لن تستقر أبدًا، فهيكل يرى أنها تصادمت مع النظام الليبرالى قبل ثورة ٥٢، رغم أنه كان قريبًا منها بدرجة تكفى للتفاهم، لكن ذلك لم يحدث، وتصادمت كذلك مع رؤساء مصر المتعاقبين، حتى حدث الصدام الأكبر مع الشعب بعد ثورة ٢٥ يناير.

الخلاصة الثانية.. أن هذه الجماعة محكوم عليها بالفناء، وحسم هيكل هذه القضية عندما أشار إلى أن كل الأحزاب فى مصر، وكل القوى السياسية انتقدت نفسها، وعالجت أمورها، وصححت أوضاعها، إلا الإخوان.

على أن السمة الأهم التى خلصت أنا إليها بعد قراءة الكتاب ربما جاءت على عكس خلاصة المؤلف، فقد رأيت فى تفاصيله كيف أن هيكل لم يعش حياته إلا كصحفى، «جورنالجى» كما كان يحب أن يقول عن نفسه، يبحث عن المعلومة، والوثيقة، ولو كانت ورقة سقطت تحت طاولة فى قاعة فارغة، أو عبارة يتفوه بها أحدهم بغير قصد فى جلسة خاصة، ولكل كلمة وقت ومناسبة يمكن نشرها فيه، لا يبوح بكل ما يعرف وقت حدوثه، لكنه يكشف عنه حين يحين الوقت، وعندما تأتى ساعة الحقيقة.

لم يكن هيكل مجرد صحفى قريب من صناعة القرار فى مصر والعالم العربى، بل هو بكل تأكيد واحد ممن ساهموا فيما مرت به المنطقة من أحداث، ومتغيرات، ومواقف، ومنعطفات تاريخية شديدة الأهمية، ولهذا يمكننى أن أقول إن ما يفعله الباز الآن واحد من أهم المشروعات البحثية التى تغوص فى التاريخ المصرى الحديث بحثًا عما يمكنها من قراءة المستقبل، أو استشراف مكوناته، فقد اقترب هيكل من مناطق صنع التاريخ، بما يليق بصحفى مجتهد، مخلص لعمله وحده لا شريك له، ومهمته التى قرر تحملها باختياره الحر، وباجتهاده ومثابرته، ودأبه، وأغلب الظن أن الباز هنا يقترب من واحد من أكبر وأهم ألغاز الصحافة العربية فى تاريخها الحديث، وربما كان ذلك ما يدفعنى لليقين من أن هناك كتبًا أخرى سوف يضيفها إلى الكتابين، فما زالت كنوز هيكل وأسراره، وكواليس حياته، تبحث عمن يسبر أغوارها، ويفتش فيما بين سطورها، وهى قادرة على أن تنير الطريق لمن يريد التفكير فى المستقبل، وربما كان هو ذلك السبب المباشر فى تلك العبارة التى يستهل بها كتابه الجديد قائلًا إن هيكل «الذى يمكن أن يعتبره البعض من الماضى البعيد، لا يمكن أن يصبح كذلك، إلا إذا تركنا تراثه كمًا مهملًا، دون أن نعيد تفكيكه وتركيبه والبحث فى خفاياه، وهو قادر على أن يدهشنا بقراءاته التى قدمها فى كتبه ومقالاته وأحاديثه الصحفية والتليفزيونية، للدرجة التى تجعلك وأنت تعيد قراءته مرة ثانية فى قلب المستقبل».