رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع غياب المنطق العقلى.. لا عزاء للمجددين

يوضح الطبيب والمؤرّخ الفرنسى جوستاف لوبون، فى كتابه «الآراء والمعتقدات»، الفرق بين المعتقد والمعرفة، بأن المعتقد هو إيمان ناشئ عن مصدر لا شعورى يجبر الإنسان على تصديق فكر أو رأى أو تأويل أو مذهب.. أما المعرفة فهى: اقتباس شعورى عقلى قائم على الاختبار والتأمل.

فالمعتقد والمعرفة أمران نفسيان يختلفان من حيث المصدر، ولكن ذلك لا يعنى أنهما متنافران أو متخاصمان، فمتى استعان المرء فى تحقيق صحة المعتقد بالتأمل والتجربة لا يظل المعتقد معتقدًا، بل يصبح معرفة.

أى أن المعتقد إذا خضع للاختبار والتأمل تحول إلى معرفة، فكأن المعتقد هو طور أو مرحلة أولية للمعرفة، فكل معتقد يمكنه أن يتطور إلى معرفة أو أن يبقى فى حيزه دون تغير.

والبقاء فى دائرة المعتقد والابتعاد عن دائرة المعرفة يؤدى إلى حالة نفسية تتصف بالسذاجة، والبدائية، مع فقد الاعتدال والصواب، فللمعتقد على الإنسان سلطان قاهر تتعذّر مقاومته، والمعتقدات دائمة كانت أم مؤقتة هى أكثر العوامل تأثيرًا فى حياة الشعوب، والشعب لا يتم حكمه بمبادئ حقيقية، بل بمعتقدات يؤمن بأنها حقيقية.

وترتبط دائرة المعتقد بمفهوم التدين الذى لا يقتصر على الإيمان بإله قادر كلى القدرة أو الإيمان بالرسل، ولكن يمتد إلى الإيمان بالخرافات والأساطير، الإيمان بقدرة تميمة، أو تعويذة، أو عدد، حتى إنه يمكن القول إن الملحد متدين كالتقى الورع، وفى الغالب يكون أشد تدينًا منه، وتمسكًا بفكرته ومعتقده، فعملية التدين يقف خلفها نمط أخلاقى يسمى: خلق التدين، وهذا الخلق وإن كان يتبدل شكلًا إلا أنه لا يغير شيئًا من جوهره، فإذا تغيَّر موضوع التدين بفعل الزمان فإن خلق التدين لا يتبدل أبدًا.

يسود خلق التدين عند الذين تقل معرفتهم بالسنن الكونية، وتقل معرفتهم بالقواعد العلمية.. وخلق التدين لا يبالى بالنقد مهما كان صائبًا. وتعجز مبتكرات العقل عن زلزلة خلق التدين؛ لالتجاء هذا الخلق على الدوام لعالم الآخرة الذى يتعذر على العلم أن يقتحمه، ولذا كان عدد الذين يرغبون فى الآخرة عظيمًا إلى الغاية.

كما أن خلق التدين هو البقعة التى تنبت فيها المعتقدات الدينية والسياسية، فالأحزاب الراديكالية والجماعات الدينية، اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية، والمتطرفة، تعيش على جانب عظيم من التدين.

فى مقابل الخلق أو المنطق الدينى يوجد المنطق العقلى الذى يتكون من عناصر أساسية هى: الإرادة، الدقة، التأمل. 

وفى الحياة اليومية يعيش المنطق العاطفى والدينى والعقلى فى حالة تجاور، وتوازن بين هذه القوى الثلاث، وإذا اختل التوازن وحدث صراع فإن المنطق العقلى ينهزم فى هذا الصراع، إذ يسهل التنكيل به واستعباده، وهذا هو السبب فى كون الدليل العقلى لا ينفع فى أمر المعتقد، دينيًا كان أم سياسيًا أم أخلاقيًا، ولا تؤدى إقامة الحجة العقلية على رأى مصدره العاطفة أو التدين سوى لاستفزاز رب الرأى المذكور وتهييجه، لا يستطيع بعقله أن يتغلب على رأى فيه ناشئ عن المشاعر والعقيدة، إلا إذا بلى ذلك الرأى وذهبت قوته.

وعلى مدى التاريخ الإنسانى المنطق العاطفى هو الذى يخرج على الدوام ظافرًا فى الصراع بينه وبين المنطق العقلى.

الخلاصة: إننا فى مجتمع يسود فيه خلق التدين، ومشكلتنا أن هذا الخلق يرتكز على تصور معين عن الله والرسول والقرآن والصحابة والفقهاء والسلف، هذه الصورة لا تخرج عن تصور الإنسان البدائى للدين، حيث العجز التام أمام قدرة كلية مطلقة، ووضع كل ما يمت للدين بصلة على درجة واحدة من القداسة، دون إعمال للعقل، أو تأمل واختبار لحقيقة هذا المعتقد، رغم أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بإعمال التفكير والعقل، أى أنه سبحانه يريد أن نخرج من دائرة المعتقد إلى دائرة المعرفة. 

لكن غياب المنطق العقلى يجعل كل محاولة لوضع نصوص القرآن الكريم وما وردنا من أحاديث الرسول، عليه السلام، وسلوك الصحابة وآراء الفقهاء القدماء موضع التأمل والتفكير هى محاولة خاسرة، تجعل من يقوم بها عرضة للهجوم، والتكفير، وربما القتل.

والحل هو أن نعلى من شأن التفكير العقلى لدى شعوبنا، فى التعليم، فى الإعلام.. فى كل نواحى الحياة.. وسيقود هذا التفكير شعوبنا من دائرة المعتقد إلى دائرة المعرفة، أما دون ذلك فسيظل المنطق الدينى العاطفى هو الغالب.. ولا عزاء للمجددين.