رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيمياء الغضب.. وغضب الكيمياء

بداية، أرغب فى توضيح هذا الترادف بين الصيغتين «كيمياء الغضب وغضب الكيمياء».. فالأولى تشير إلى التغيرات الكيميائية والفسيولوجية التى تنشأ لدى حلول الغضب ضيفًا على الإنسان، بينما يشير التعبير الأخير إلى الآثار الطبية التى قد يحصدها البدن أو النفس أو كلاهما معًا جراء سريان الهرمونات والمواد الكيميائية للدم وتسببها فى حدوث المرض أو اختلال بعض الوظائف.

تجدر الإشارة إلى أن كل الانفعالات النفسية والأوامر العصبية التى تجرى بالجهاز العصبى، والتى تهدف إلى استمرار فسيولوجيا الحياة، تعتمد على ما يعرف بالناقلات العصبية، والناقل العصبى عبارة عن مادة كيميائية تقوم بتكبير الإشارة المنقولة عبر النهايات العصبية لتوزيعها على عدد أكبر من الخلايا العصبية، بهدف توسيع دائرة نشر الأوامر العصبية للأعضاء الطرفية لتقوم بوظائفها.

تختلف طبيعة التنبيه العصبى باختلاف الوسيط الكيميائى الذى ينطلق من حويصلة التخزين عند النهايات العصبية ويُحدث الأثر المطلوب، سواء كان تنبيه عضلة أو إفراز هرمون أو حتى وقف إفراز هرمون، أما بالنسبة للسعادة والحزن والفرح وغيرها من الانفعالات، فثمة أربعة هرمونات أساسية تخدم حدوث هذه الانفعالات، فهرمون الدوبامين هو المسئول عن تحفيز الإنسان لتأدية المهام بحماس جراء شعور السعادة الذى يوفره مقدمًا، لذلك، فإن اختلال مستوى الدوبامين له دور كبير فى كثير من الأمراض البدنية والعقلية مثل مرض الشلل الرعاش «باركنسون»، الفصام، وقصور الانتباه، ومتلازمة توريت، وعدم القدرة على الإحساس بالمتعة عند مزاولة أنشطة هى فى الأصل ممتعة مثل الضحك، الجنس، أو غيرهما، وتشير الأبحاث إلى أن نقص المركب الدهنى المعروف بـ«الأوميجا- ٣» هو السبب فى قصور إنتاج هرمون السعادة.

وعلى الجانب الآخر، فإن هرمون «السيرتونين» يساعد الإنسان أيضًا على تعزيز الثقة بنفسه وتوفير قدر معقول من الحماس قبيل إنجاز المهام أو بمجرد إتمامها، أما هرمون «الإندورفين» فهو المخدر الداخلى الذى ينتمى إلى مجموعة المورفينات المسكنة للآلام، ويتبقى فى حديثنا هرمون «الأوكسيتوسن»، وهو فى الأصل هرمون قابض لعضلة الرحم يشارك فى دفع المولود أثناء المخاض وكذلك وقف النزف بعد فصل المشيمة من جدار الرحم، وأبعد من ذلك فهو يمنح الإنسان الشعور بالسعادة فى العلاقات الحميمية فيدفعه لبناء العلاقة.

يدير المخ كل المهام الفسيولوجية بالجسم، أى إصدار الأوامر من المخ وتنفيذها بواسطة العضلات أو الغدد بالأمر المباشر عن طريق إرسال الإشارة من المخ للعضلة مثلًا عبر العصب المخصص لذلك، أو عن طريق إفراز مادة كيميائية من غدة مثل الغدة الكظرية التى تفرز هرمون الأدرينالين فيسرى فى الدم ليُحدث أثرًا محددًا فى ضربات القلب، أو باعتماد الطريقة الثالثة وهى خليط من الأمر العصبى متزامنًا مع الرسالة الهرمونية كما أوضحنا سلفًا.

إذن، تعتمد إدارة الجسم على التناسق الوظيفى بين المخ، وهو مدير العمليات، والأعضاء الطرفية عبر الوسيط الهرمونى لتؤدى الوظائف المحددة، ولكن يتبقى شق أو وظيفة الانفعالات النفسية وهى مجموعة وظائف معقدة تؤتى بكاملها فى الجهاز العصبى وتؤتى نتائجها أو ردود الأفعال متمثلة فى انقباض عضلة تمنح الوجه ملامح الفرحة أو ملامح الحزن أو الوجوم، فتؤتى بالانفعال الذى يتناسب مع الأثر سواء كان فرحة، دهشة، فزعًا أو خوفًا أو أى من الانفعالات اللامحدودة.

لا يقف الأمر عند إحداث ردة الفعل الانفعالية مع هذه الرسائل الكيميائية، بل يجب الأخذ فى الاعتبار حدوث آثار أخرى قد تكون حميدة أو مؤذية مثل انقباض الأوعية الدموية وما يتبع ذلك من إصابات الذبحة الصدرية، والتى تعنى نقص الإرواء الدموى لعضلة القلب عبر الشرايين التاجية، وهو أمر سيئ للغاية قد ينتهى بموت جزء من عضلة القلب أو توقفه بالكامل وبالتالى حدوث الوفاة، وعلى الجانب الآخر قد تأتى استجابة الجهاز العصبى للضغوط والانفعالات القاسية على شكل تأذى فى وظائف الأعضاء مثل تقلص القولون وتعطَل حركته مسببًا الإمساك أو الانتفاخ، أو تحفيز المعدة لإفراز حمض الهيدروكلوريك بكميات تفوق ما يلزم فى عملية الهضم المعتادة.

الملاحظ أن هناك تفاوتًا كبيرًا فى الآثار الناجمة عن فرط إفراز الهرمونات الوظيفية والمتزامن مع الضغوط العصبية بين الرجال والنساء، فبينما نجد أن العضو المستهدف بالضرر بين الرجال هى عضلة القلب متمثلة فى نوبات الذبحة الصدرية بمعدلات تفوق حدوثها بين النساء، والسبب المعروف هو الحماية التى يوفرها هرمون الأستروجين للمرأة فيمنع ترسيب الشحوم على بطانة الشريان التاجى، ولكن فى المقابل نجد أن الأعضاء المستهدفة فى المرأة هى الجهاز الهرمونى والمخصص وظيفيًا للخصوبة والإنجاب، فتصاب الفتاة أو المرأة ضحية الضغوط العصبية بنوبات متكررة من انقطاع الطمث مع خلل فى التبويض، مما يعطل فى النهاية فرص الإخصاب وقد يعطل فرص الإنجاب وربما يحول نهائيًا ضد حدوث الحمل، هذا بالطبع مع تساوى فرص الضرر النفسى والأرق واضطرابات النوم فى الجنسين بنفس النسبة، وتزايد احتمال حدوث الخلل النفسى واضطرابات الذاكرة أو ارتفاع الضغط جراء ضخ كميات كبيرة من هرمون الأدرينالين المؤثر بشدة على عمليات التمثيل الغذائى، وانفلات مستوى السكر بالدم سواء بالارتفاع أو الانخفاض مع تزايد فرص حدوث الغيبوبة السكرية.

فى النهاية، يجب الوقوف عند الخلاصة التى تشبه الحكمة، وهى أن جل وظائف الجسم ترغب فى العيش بسلام والعمل بانتظام إلا من التكدير العصبى الذى يربك كل العمليات الفسيولوجية بالجسم.