رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

توفيق الحكيم النخبة والجماهير

فى ٢٦ يوليو الجارى تحل ذكرى رحيل توفيق الحكيم الخامسة والثلاثون، وقد أشار نجيب محفوظ إلى دور الحكيم حين فاز بجائزة نوبل فقال إنه لو كان الحكيم حيًا لكان هو الأجدر بتلك الجائزة.

بهذه المناسبة تحضرنى عبارة كالصيحة أطلقها الحكيم ذات يوم حين كتب: «انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم»، وأردف يوضح: «لقد أخذ لاعب كرة فى سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون»!.

بكلماته تلك طرح الحكيم سؤالًا يلح علىّ من يومها: هل جانب الصواب النخبة الثقافية التى وهبت العالم عصارة قلبها وعقلها فكرًا وفنًا وفلسفة، بينما لم يلق إبداعها على مدى التاريخ اهتمامًا يذكر من الجماهير؟ بل وفضلت الجماهير دائمًا أن تمنح مالها وإعجابها ونظراتها للاعبى كرة القدم والمطربين ونجوم السينما؟

هل كانت الجماهير على حق فى إيمانها الواعى أو غير الواعى؟ المعلن أو غير المعلن؟ بأنه لا ينبغى إهدار الحياة فى كدح الهموم الفكرية، وأن الحياة لحظة لا بد أن نغتنمها ونستمتع خلالها باللهو وألعاب الحظ والصور المتحركة والأغانى والرقص؟ ترى مَن كان على حق؟ النخبة؟ أم الجماهير؟

لم يحيا توفيق الحكيم إلى وقتنا ليرى لاعب كرة القدم «كيليان مبابى» يحصل على مليون جنيه إسترلينى فى الأسبوع! بينما لم يجدوا تحت وسادة عباس العقاد حين توفى سوى ربع جنيه فقط لا غير! ولم يكن الحكيم ليصدق أن اللاعب ليونيل ميسى يتقاضى ٩٦٠ ألف إسترلينى فى الأسبوع؟ بينما عاش الأديب العظيم فيودور دوستويفسكى يكتب رواياته فصلًا بعد الآخر للمجلات الأسبوعية، ليسدد ما عليه من الديون التى تطارده، وعلى حين يبلغ دخل مغنى الراب الأمريكى «شون كومبس» مائة وثلاثين مليون دولار سنويًا، كان نجيب محفوظ مضطرًا لكتابة سيناريوهات أفلام لأن راتبه لا يكفى لسد احتياجات المعيشة.

والسبب الرئيسى فى تلك الهوة الشاسعة بين شظف حياة الأدباء ورفاهية حياة نجوم الفنون الجماهيرية يرجع إلى الجموع التى تحيط نجوم تلك الفنون بعنايتها ولا تبخل عليهم بآخر ما فى المحفظة من مال، أليس ذلك إعلانًا بما يأتى لدى الجماهير فى المقام الأول؟ وإعلانًا بأن الإنسان لم يُخلق لمعاناة الإبداع بل للراحة واللهو والتسلى بالحياة. مَن الذى جانبه الصواب؟ النخبة؟ أم الجماهير؟ تطرح أجور النجوم الخرافية ذلك السؤال بقوة.

وعلى سبيل المثال، فقد بلغ أجر ممثل خمسة وأربعين مليون جنيه! بينما عاش الأديب مارك توين حياة قاسية مثل معظم الكتاب، وحين سأله أحدهم ذات مرة: ماذا تفعل هذه الأيام؟

أجابه: أؤلف القصص.

فعاد يسأله: وهل بعت شيئًا؟

أجابه مارك توين: نعم.. بعت ساعة يدى وقريبًا سوف أبيع ثيابى.

ولو كانت الجماهير تحسب أو تؤمن بأن للأدب والفكر دوره وأهميته، لأحاطت الأدباء وأعمالهم برعايتها، لكن الجماهير حتى حين تشترى شيئًا من الأدب فإنها تشترى روايات «أجاثا كريستى»، وهى الأكثر مبيعًا فى تاريخ الرواية، لأنها مسلية وشيقة! فى المقابل سنجد كاتبًا كبيرًا هو جيمس جويس يلخص الهوة بين النخبة والجماهير حين يقول: يظل الكاتب يكتب لأن حاجته إلى التأليف توازى حاجته إلى التنفس، يظل يكتب رغم الوحدة والفقر وأكوام رسائل الرفض من دور النشر، ورغم الأهل الذين يقولون له: لماذا لا تزاول وظيفة حقيقية أيها الأحمق؟

هل اختارت النخبة طريقًا مسدودًا حين راحت تبذل عصارة خيالها وقلبها وعقلها لترتقى بالشعور والفكر؟ ينما تؤكد الجماهير كل يوم أنها لا تعبأ بذلك الجهد، عندنا يمكنك أن تسأل أى عابر طريق عن عمرو دياب وعبدالقادر المازنى، وسوف تقودك الإجابة إلى التساؤل نفسه: مَن كان على حق؟ ومَن جانبه الصواب؟ الأحلام أم الواقع اليومى؟ الأقلام؟ أم الأقدام؟