رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غطاء الرأس من التمييز الطبقى إلى الشعار السياسى

 

لم يفرض القرآن الكريم زيًا معينًا على المرأة، ولكن أمر بالاحتشام فى الملبس والسلوك، وعدم المبالغة فى الزينة، فلا يوجد نص قرآنى صريح يأمر المرأة بتغطية شعرها. 

والآية الكريمة التى تقول: «يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين» هى خطاب للنبى ليوجه نساء المؤمنين لاختيار ملبس يُحقق لهن الحماية من الأذى والمضايقة، حيث إن النساء فى ذلك الوقت كُن يقضين حاجتهن فى الصحراء، قبل أن تكون هناك دورات المياه فى البيوت، فقد كان بعض الفجار من الرجال يتعرضون للمؤمنات على مظنة أنهن من الجوارى، أو من غير العفيفات، وقد شكون ذلك للنبى، ومن ثم نزلت الآية لتضع فارقًا وتمييزًا بين «الحرائر» من المؤمنات وبين الإماء. 

وهذا الأذى كان من الفجار والسفهاء من الأعراب أو الكفار، ولا يعقل أن يكون من الرجال المسلمين، وإلا لنهاهم الرسول الكريم عن التعرض للنساء، أو توجه لهم الخطاب القرآنى والنبوى بهذا الأمر، لكن لأن الرسول ليس له عليهم أمر لعدم إسلامهم، فكان التوجيه للمسلمات باتخاذ الحيطة، ضمانًا لسلامتهن. 

فالأمر هنا ليس نصًا تشريعيًا، لكنه توجيه للمسلمات وحل لمشكلة كانت تواجه المسلمات من غير المسلمين الذين لا يتأدبون بخلق الإسلام، ومنها إعطاء الطريق حقه، وغض البصر، وعدم تتبع العورات. 

فغطاء الرأس وإطالة الثوب كانا لغرض اجتماعى، هو المحافظة على سلامة من ترتديه من أذى الفجار، وتحول بعد استقرار وانتشار الإسلام خارج المدينة إلى غرض طبقى لتمييز الحرة المسلمة عن الأَمة المسلمة، فيروى أن عمر بن الخطاب كان يطوف فى المدينة، فإذا رأى أَمة محجبة ضربها بدرته الشهيرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها، ويقول: فيما الإماء يتشبهن بالحرائر.

وجاء فى كتاب المغنى «إن عمر رضى الله عنه، ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة، وقال اكشفى رأسك ولا تتشبهى بالحرائر».

فليس المقصود بالأمر تجنب الفتنة، فهل شعر الحرائر يفتن الذكور وشعر الجوارى لا يفتنهم؟ وهذا دليل على أنه تنظيم اجتماعى، ولو كان «غطاء الشعر» حكمًا تعبديًا أو فرضًا كالصلاة والصوم لوجب على الجميع ولم تستثن منه «الإماء أو الجوارى»، فالفروض والواجبات شاملة، ولا تخص فئة أو طائفة من المجتمع. 

وقد تطورت المجتمعات الإنسانية، حتى تم إلغاء الرق والعبودية، تطورت العلاقة بين البشر، فلا يوجد رقيق الآن، وقد استجاب المسلمون لهذا التطور، وتماشوا معه، مع أن الرقيق كانوا مكونًا أساسيًا فى المجتمع الإسلامى الأول، وما زالت آيات الرق وملك اليمين آيات تتلى فى القرآن الكريم، ولكنها آيات لا يتم العمل بها لاختفاء من يحملون هذه الصفة، وتغير الظروف والأحوال، وقد تم إلغاء العبودية، وانتفت كل أشكال التمييز بين البشر.

ومن يقرأ كتب الفقهاء لا يجد أن موضوع غطاء الرأس يشغل حيزًا كبيرًا أو مهمًا، لأنه كان تقليدًا اجتماعيًا، جزء من الموضة والمتعارف عنه من الأزياء فى كل أنحاء العالم، لكن الخلاف بدأ، عندما بدأت التطورات الحديثة فى أزياء النساء مع عصر النهضة الصناعية، وانتقلت هذه التطورات للمجتمع المصرى مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر، وقدوم نساء من جاليات أجنبية، وبدأت المصريات يتابعن ويسايرن الموضة العالمية، هنا بدأ النقاش والسؤال الذى يشغل حيزًا أكبر مما يستحق، وشغل النقاش حوله وقتًا وجهدًا كان تحسين أخلاق المسلمين ودعوتهم لإعمال العقل والفكر أولى بهما، وأمام هجمات الاحتلال وضعفنا العام وعدم القدرة على مسايرة النهضة وتحقيق التقدم كان التمركز والتشبث بفكرة فرضية غطاء الرأس كمحاولة للسيطرة وتمييز الذات، وغير الرجال من مظهر ملابسهم فتخلوا عن اللحية، وتخلوا عن العباءة والجلباب وغطاء الرأس بكل أشكاله من العمة والعقال والطربوش، بسهولة ويسر، وإن لم يخلُ الأمر من فتوى هنا وهناك، وما زال السلفيون يتمسكون بالجلباب واللحية، ويعتبرونهما سنة، يتقربون بها إلى الله، وأيضا تميزًا لهم عن غيرهم من الجماعات الإسلامية. 

فتغطية الرأس وارتداء الجلباب والخمار والنقاب هى ظاهرة اجتماعية سياسية ارتبط انتشارها بانتشار الجماعات المتأسلمة، ورغبة هذه الجماعات فى إظهار قوتها وزيادة نفوذها بين أفراد المجتمع، لذا نجد القتال الشديد والحرص الكبير على تصوير غطاء الرأس على أنه واجب، ويصلون إلى جعله فرضًا، وينشرون مقولات ما أنزل الله بها من سلطان «الحجاب قبل الحساب»، فلا يقولون «الصدق قبل الحساب» أو «إتقان العمل قبل الحساب» فهذه أمور تحتاج لسنوات حتى تظهر ثمرتها، وتحتاج لجهاد كبير لضبط النفس وتنمية الأخلاق، ولكن بكثرة عدد الرءوس المغطاة يمكن رصد مدى نفوذ هذه الجماعات على الشارع.

إن استدعاء أى شكل أو نمط من أنماط الملابس التى كانت سائدة فى فترة تاريخية والتمسك بارتدائه هو نوع من التمييز الاجتماعى، فالملبس هو تعبير اجتماعى وليس فقهيًا، فغطاء الرأس وما يتبعه من الخمار والنقاب لا يخرج عن أن يكون إعلانًا تمييزيًا، يميز بين المسلمة وغيرها من غير المسلمات، وهو أمر ليس مطلوبًا فى مجتمع يحرص آباؤه على التجانس وعدم التمييز الدينى أو العرقى.