رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العقاد ونبى الوطنية الصينى

نحتفل هذه الأيام بذكرى ميلاد الكاتب والمفكر والسياسي عباس العقاد "28 يونيو 1889، أسوان"، الذي شارك بقوة في معترك الحياة السياسية، انضم لحزب الوفد، ودافَع ببسالة عن "سعد زغلول"، لكنه استقال من الحزب عام ١٩٣٣م إثْر خِلاف مع "مصطفى النحاس"، وهاجم الملك أثناء إعداد الدستور، فسجن تسعةَ أَشهر، كما اعترَض على معاهدة ١٩٣٦م.

حارب كذلك الاستبداد والحكم المطلق والفاشيةَ والنازية.. تعددت كتبه حتى تعدت المائة، ومن أَشهرِها العبقريات، بالإِضافة إِلى العديد منَ المقالات التي يصعب حصرها، ولَه قصة وحيدة هي "سارة ".. توفي عام ١٩٦٤م تارِكًا ميراثًا فكريًا ضخمًا لمن يخلفه..
وبالمناسبة نعرض لأحد إصدارات العقاد المتميزة، فبينما نعيش كارثة الحرب الروسية الأوكرانية وصراع التحالفات من جانب القوى الكبرى ومنها الإسهام الصيني، أذكر كتاب "سن ياتسن أبو الصين"، الذي صدر عام 1952، وكنت قد أعدت الاطلاع عليه منذ أيام، ويرى العقاد في كتابه عنه أن "سن ياتسن" الطبيب المثقف والسياسي الداهية أنه مؤسس الصين الحديثة، حيث أنهى حكم الأسر الصينية المتعاقبة الذي دام لعقود طويلة وذلك بعد أن شارك في قيادة الثورة ضدهم لتصبح الصين جمهورية، كان ياتسن يرى أن للصين "شعبًا ووطنًا" حالة خاصة تختلف عن بقية الدول، فالأفكار الثورية التي كانت سائدة في بداية القرن العشرين من ماركسية أو ليبرالية مستقاة من الثورة الفرنسية لا تصلح كمبادئ لثورة الصين، لاختلاف تركيبة المجتمع الصيني وخصوصية مشكلاته، فوضع المبادئ الثلاثة لإصلاح الصين، هذه المبادئ هي: السيادة للشعب، والاعتصام بالقومية الصينية الجامعة لأبناء الشعب، والمبدأ الأخير هو العمل على تيسير معيشة الصينيين وتحسين أحوالهم.
وفي الكتاب يسرد العقاد قصة ياتسن وحال الأمة الصينية قبل الثورة، ويبين ماذا فعل ياتسن ليحقق مبادئه الثلاثة.. يُسمى سن ياتسن بأبي الصين.. ويحق لأبناء الصين الحديثة أن يلقبوه بهذا اللقب، لأنه في الحق قد ولد الصين ولادة جديدة، فهو أب لها بكل معاني الأبوة الروحية.
وهنا يؤكد العقاد أنه من فضول القول أن نقول: إن الولادة الروحية هي ولادة فكرة، ولعلها فكرة واحدة تنطوي فيها جميع الأفكار، وفكرة سن ياتسن التي ولَّد بها الأمة الصينية مولدًا جديدًا هي هذه الكلمة التي جعلناها عنوان الكتاب.
يقول العقاد: لقد كانت الصين كلها تقول غير هذا قبل قيام هذا الزعيم بدعوته، كانت تقول نقيض هذا من طرف إلى طرف، فالصعب عندها هو العمل، والسهل عندها هو الفهم، وما يتبعه من شروح، وكانت حكمتها الخالدة: ما أسهل الفهم وما أصعب العمل، أو ما أسهل الكلمات وما أصعب الأعمال، ومن الكلمات ما يلخص حضارة كاملة، وأصدق ما يكون ذلك على الحضارة الصينية: تلك الحضارة التي قامت على تقديس الأسلاف وتوارث الحكم من أفواههم أحقابًا أحقابًا، وأعقابًا بعد أعقاب، وقد تلخصت حضارة الصين كلها في طلب المعرفة.. 
ويشير العقاد إلى أنه قد تلخصت المعرفة كلها عندهم في طلب الدعة، فلا شيء أدل على الحكمة وعلى المعرفة من إعفاء النفس من الجهد الذي لا يجدي، وأي جهد يجدي في عالم لا يتغير ولم يتغير منذ ألوف السنين: حرب بعد حرب، وعرش يسقط وعرش يقوم، وحال تتداولها الأيام على وتيرة واحدة، وشرور معروفة تذهب وتعود، وعمل معروف النتيجة آخر المطاف، ونتيجة الأمس هي نتيجة اليوم ونتيجة الغد، ووراءك الماضي مكشوف للنظر إن كان المستقبل أمامك غير مكشوف.. 
ويؤكد العقاد أن أبو الصين قد لقى العنت الأكبر من تلك الحكمة الموروثة، حكمة الإيمان بصعوبة العمل وقلة جدواه، فكلهم يقول إذا لقيهم شارحًا لهم مصائب وطنهم: نحن نفهم ما تفهم يا صاح، نحن نود أن نعمل لو تيسر العمل، ولو كان بالعمل جدوى، ولو كان كل ما هنالك أننا نفهم مصائب هذا الوطن المسكين.. 
فلما جاهد الرجل جهاده كانت علامة نجاحه الأولي، بل علامة نجاحه الكبرى، أنه وجد من الأعوان أناسًا يؤمنون بسهولة العمل متى فهموا ما ينبغي أن يعملوا، ثم عمل شيئًا ولا شك، وإن لم يعمل كل شيء، ولكن الذي عمله لم يكن إليه سبيل لو ظل الناس يرددون حكمتهم القديمة في الفهم اليسير والعمل العسير، وأسهب الرجل غاية الإسهاب في الفهم، أسهب غاية الإسهاب، وفصَّل غاية التفصيل، ووهم من يسمعه أو يقرؤه أنه لا يحسن إلا أن يفهم ويعين التفهيم، وأنه غارق في الأحلام، غارق في بحار من الكلام، وهكذا وصفه الذين عاهدوا أنفسهم ليصغرن كل كبير من بعض نواحيه، فعابوه بأنه "حالم".. ولو أنهم بحثوا عن عظمة له أعظم من أحلامه لما وجدوها، بل لو أرادوا أن يتخيلوا عملًا له بغير الحلم لما استطاعوا أن يتخيلوه ..
  ويختتم العقاد عرضه للكتاب أنه قد مرت بالبلاد عشرون سنة بدلت كل شيء غاية التبديل، فلا عزلة عن العالم الخارجي، بل لجاجة في الاتصال واشتباك العلاقات، ولا استغناء عن الحكومة المركزية في كبير الأمور أو صغيرها، بل هي الحكومة التي لا بد من صلاحها أو تغييرها: تغييرها هذه المرة تغيير التطور في النظام وفي جملة السياسة وتفصيلاتها.
  وهبت في البلاد ثورات، ولكنها كانت من ثورات التاريخ الماضي، وعلى سنته البالية، فلم تفلح ولم تغير شيئًا، لأنها هي نفسها أحوج ما كان إلى التغيير ..
    وانتظرت البلاد ثورة من التاريخ الحديث، فجاءتها الثورة من تاريخ العصر على يد الرجل الذي سمي بحق أبا الصين الحديثة، وسُمي بحق نبي الوطنية في الصين.