رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خنق قواعد السوق

تنشأ السوق أساسًا فى النظام الرأسمالى حول نظرية العرض والطلب، التى تعمل على تحديد السعر عن طريق تفاعل الجانبين معًا فى حرية مطلقة ودون تدخل من المنظم أو الحكومة أو جهة خارجية تفضل أحد الجانبين وتقويه على الآخر، بحيث يظل التوازن قائمًا بينهما بما يخدم المنتجين والمستهلكين معًا، وبالتالى ينال أى تدخل من الحكومة فى أى الجانبين بنقد لاذع، قد يصل فى بعض الأحيان إلى المحاكمات الاقتصادية.

هذا على الأقل ما يتعلمه طلاب علم الاقتصاد فى المناهج الدراسية، ويحظى فعليًا بتطبيق واسع فى المجتمع الغربى، ويظل ذلك التطبيق قائمًا إلى أن يتناقض ذلك مع المصلحة العليا للدول الغربية، فإن ذلك ينتهى تمامًا، ودون أى تفكير فى صحة السوق، أو المصلحة الاقتصادية، تجلى هذا بشدة فى عام ٢٠٠٨ مع الأزمة المالية العالمية، عندما تدخلت إدارات الدول لشراء حصص أغلبية فى الشركات والبنوك المنهارة التى تعرضت للإفلاس أو كادت، حتى وجدنا الإدارة الأمريكية تشترى حصصًا فى بعض البنوك والشركات الأمريكية الكبرى. إلا أننا نواجه الآن تعديًا أكثر صراحة على قواعد السوق وليس على المستوى الوطنى، بل على المستوى الدولى، حيث أعلن قادة مجموعة السبع الاقتصادية عن اتجاههم لوضع حد أعلى لمنتجات الطاقة الروسية فى السوق «أى تسعيرة جبرية» لا يمكن للمشترين تجاوزها، وإلا حُرموا من التعامل فى الأسواق الغربية. التعدى هذه المرة صارخ للغاية حتى أنه لا يحاول التجمل، أو الظهور بمظهر المتدخل من بعيد، بل إن المجموعة التى تحمى النظام الرأسمالى العالمى، تنتهج نهج الدول الاشتراكية الذى ترسخ فى منتصف سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى. هذا التوجه العكسى جاء فى الحقيقة لفشل نظام العقوبات الغربية فى تكبيد النظام الروسى خسائر تمنعه من الاستمرار فى الحرب، حيث ارتدت الإجراءات التى استهدفت منع النفط الروسى من الوصول للأسواق بأثر عكسى، إذ أدت إلى ارتفاع أسعار المنتج فى السوق، مما أفاد الروس بشكل حاد، حيث وجدوا مستوردين آخرين راغبين فى الدفع والاستفادة من الخصومات التى بدأت الإدارة الروسية فى تقديمها، لمواجهة الضغوط الموجهة إليها. فكانت النتيجة أن باع الروس منتجهم بثمن أعلى مما كان يُباع به سابقًا، لمنافسى الأوروبيين فى الهند والصين بثمن أقل مما يشترى به فارضو العقوبات أنفسهم، فأدى ذلك إلى تقوية شوكة المنافس الاستراتيجى المتمثل فى روسيا، والمنافس الاقتصادى المتمثل فى الهند والصين، وبالتالى أصبح الخاسر الوحيد من العقوبات هو فارضها وتحوّلت العقوبات لسيف مسلط على رقبته. اليأس المترتب على سوء النواتج، دفع بالقوى الغربية إلى تبنى مقاربات أكثر حدة، تصل إلى تحديد السعر بالكامل، وهو الإجراء الذى يتجاوز كل قواعد السوق، بل يخنقها، حيث يقضى على المنافسة وينهى نظام السوق تمامًا، حيث لا جانب عرض ولا طلب، ولا تفاعل. الأكثر إثارة فى الأمر هو الأداة التى تنوى إدارات الدول السبع اتباعها لفرض السعر، وهو استخدام نظام التأمين على السفن التى تنقل المنتج من روسيا لمستهلكيه، حيث يجرى إجبار هؤلاء على عدم نقل النفط إذا ما تجاوز سعره رقمًا معينًا، وإلا لن يجرى التأمين على سفن الناقل. علّمنا التاريخ أن منظومة القيم الغربية التى يُروج لها، والتى تحاول الدول الغربية فرضها خارج حدودها، كلما اختبرت فى مواجهة المصلحة الذاتية لهذه الدول، فإنها تطيح تمامًا ولا تبقى، وبالتالى فإنه علينا أن نتخذ من النظام الدولى ما يناسب مصلحتنا الوطنية، وأن نترك منها ما يتعارض معها، فالباقة الكاملة من القيم الغربية غير صالحة لمجتمعنا من ناحية، ولا مصلحتنا الوطنية من الناحية الأهم.