رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين النور والظلام «كلمة»

حدثت عدة جرائم في الآونة الأخيرة، يشيب لها الولدان من شدة بشاعتها، ولتداخل أفكار جديدة على مُجتمعاتنا الشرقية، لم يكن لها وجود من قبل، أو ربما لم تكن مُستشراة بهذا الكمّ الغريب، فلقد بِتنا نقتبس الحُجج من أجل ارتكاب الجرائم، ونبحث عن الدوافع الواهية لكي نُبرر السلوكيات المنبوذة والمرفوضة التي لا تتناسب بتاتًا مع عاداتنا وتقاليدنا وديننا.

وعند الكلمة الأخيرة، أحب أن أتوقف، بمعنى أنه لماذا يقوم البعض بإقحام الدين في كل مشكلة أو جريمة تحدث؟ فهل هذا يُساير المنطق ويتلاءم معه؟ فعلى سبيل المثال، في إحدى الجرائم الأخيرة، التي تحولت فجأة إلى قضية رأي عام، ظهر البعض ممن يتحدثون في الدين، وحاولوا تأويل الجريمة على أنها حدثت لأسباب ودوافع دينية، بمعنى أنهم يُوجدون أسباب ومُبررات للجاني، وكأن الأخير ارتكب جريمته تحت مظلة الشرع، وهل نختلف على أن هذا الفكر العقيم يُعتبر تبريرًا لارتكاب الجرائم، إن لم يكن تشجيعًا على ارتكابها تحت مُسمى حماية الدين والأعراض؟! لاسيما وأننا نتعامل مع مُجتمع يسع كل الأفكار، وكافة الطبقات، والثقافات المُختلفة، والأدهى من ذلك أن هناك فئة ليست بالقليلة من الشباب والمُراهقين الذين هم كالإسفنجة التي تمتص كل ما يُبثّ لها من أفكار، ولا يتناهون عن التعلق بأي قشة يُعلقون عليها سلوكياتهم، فماذا لو كل شاب برر قتله لفتاة بحُجة أنها لا ترتدي الحجاب؟

والأهم من ذلك، أن هذه الفتاوى التي يخرج بها هؤلاء، ستُحول المُجتمعات إلى غاب، فليس من حق أي إنسان مهما بلغ علمه، أو ثقافته، أو تدينه أن يُنصُب نفسه إلها، يُحاسب البشر على أفعالهم، فيُبيح هذا، ويُحرم ذاك، ويُعاقب مَنْ لا يستسيغ تصرفاته وأفعاله، ويمتدح مَنْ يستحسن نهجه وسلوكياته.

فالمولى عز وجل خلقنا في هذه الحياة مُختلفين، وله حكمة في هذا، وصدق الله العظيم عندما قال في كتابه العزيز: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)، فالتآلف يعني في المقام الأول الحُب والانسجام، وهذا لا يحدث إلا بالاستحسان، ولذا نجد بعض الأشخاص ينسجمون بسبب استحسانهم لنهج بعضهم البعض في الحياة، في حين أنهم يتنافرون مع غيرهم بسبب اختلافهم، وهكذا الحياة، فيها كل الطوائف، والأفكار، والتشابه فيها لا يمكن أن يصل إلى حد التطابق والتماثل، فكيف إذن لشخص مهما كان مبلغه من التقديس، أن يسمح لنفسه أن يحكم على درجة إيمان إنسان مثله، وكيف يتنسى له أن يُبيح أو يُهدر دمه، وكيف يُقابل المولى عز وجل، وهو يُبرر الجريمة، ويُشجع بشكل ضمني، وأحيانًا صريح على سفك الدماء.

ويا تُرى أيهما أبشع، عدم ارتداء الحجاب، أم نشر الأفكار الفاسدة، ولابد أن يُدرك هؤلاء أننا في زمن العولمة، والرقمنة، بمعنى أن أي كلمة تُبِثّ عبر أي وسيلة من وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي تنتشر انتشار النار في الهشيم، وللأسف، تجد صداها عند ضعاف النفوس، وقليلي الإيمان، وحديثي السن، وأصحاب الأغراض، وبالتالي ستشيع الفاحشة، وتستشري الجريمة، وتُسفك الدماء البريئة، وكل هذا سيتسبب في قمع الحريات، وسيموت الشعور بالأمان، ويزيد عدد الجُناة، وكل هذا ترفضه كافة الشرائع السماوية، ولن يتقبله أي قانون وضعي.

لذا، فيتعين على كل صاحب كلمة مسموعة أن يُفكر مليونمرة قبل أن يتحدث، وعلى كل صاحب قلم أن يدرس ويتمحّص قبل أن يكتب، وعلى كل رجل دين أن يبحث ويعود إلى المصدر قبل أن يُصدر فتوى.

وكما قال عبد الرحمن الشرقاوي: "مفتاح الجنة في كلمة، ودخول النار على كلمة ... الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور... الكلمة فُرقان بين نبيّ وبغيّ، بالكلمة تنكشف الغُمّة، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة.. الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسئولية، إن الرجل هو كلمة، شرف الله هو الكلمة".

فصدقوني، بين نور العلم والمعرفة، وظلام الجهل والقمع"كلمة" ففكروا ملايين المرات قبل أن تنطقوها.