رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التصهين المتصحر

 ماذا حدث للشخصية المصرية؟
الحلم الصهيوني بالتوسع من النيل إلى الفرات وما صاحبه من ترتيبات دولية منذ وعد بلفور 1910 إلى الإعلان الأممي 1948 هنا كانت البداية، ومن هنا أيضًا بدأ المخطط الكبير لإذابة أي عوائق أمام إقامة تلك المملكة.
تلك العوائق كانت تتمثل في عدة محاور، أهمها يتعلق بدولة مصر، لما تمثله من حجر زاوية لكل دول منطقة الشرق الأوسط، فمصر هي الصخرة التي تحطمت عليها كل أحلام الغزاة منذ رحيل إمبراطورية الأجداد قبل 3500 عام، وليس كذلك فقط، بل إن كل ثقافات الغزاة تمت إذابتها وإدخالها داخل دائرة الثقافة المصرية.
وهنا كلمة سر قوة مصر التي استطاع الأعداء تحديد نقاط ارتكازها وهي "هوية مصر"، تلك الهوية تتمثل في كل الصفات والسمات المتفردة للشخصية المصرية التي ورثت مورثات الحضارة القديمة دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعلميًا، فكان التخطيط المحكم من الأعداء لاختراق تلك الموروثات ومحاولة تفريغها من المحتوي المصري، وتهجينها إلى محتوي متغرب دخيل آخر يساهم في المساعدة بتحقيق حلمهم المزعوم، ولحدوث ذلك كانت هناك محطات عالمية تاريخية تمحورت في التالي.
اسكتلندا عام 1910 أقيم مؤتمر الإرساليات الإنجيلية في العالم، ونشأة الحركة المسكونية الحديثة من خلال حركتي: "الحياة العملية" ولجنة "إيمان ونظام" وتنظيم المؤتمرات واللقاءات العالمية وبدء التقارب بين الكناس، وكان من ضمن أهداف تلك الحركة ظاهريًا هو التبشير بالإنجيل، ولكن الغرض الحقيقي لها تمثل وما زال يتمثل في توطين ثقافة تلك الحركة الصهيونية، لاختراق المسيحية الأرثوذكسية في منطقة الشرق الأوسط وعلى الرأس الأرثوذكسية المصرية، لأنها الوريث التاريخي للحضارة والهوية المصرية وصاحبة الإيمان المستقيم الراسخ، الذي لا يعترف بأي وعود كتابية مزيفة لرجوع بني إسرائيل إلى أرض الموعد بفلسطين، فكان هذا التوطين الثقافي من الإرساليات الإنجيلية.
وفي عام 1928 قامت المخابرات البريطانية بإنشاء جماعة الإخوان المسلمين، وكان من ضمن أهداف إنشائها أيضا التوطين الثقافي الديني داخل الوطن مصر، لاختراق ثوابت الدين الإسلامي الوسطي والمتلاحم تمامًا مع موروثات الهوية المصرية والمنصهر داخل بوتقة ثقافية واحدة مع الإيمان المسيحي، ولما شكلاه من حائط صد منيع لكل الغزاة عبر تاريخ تواجدهم، وهنا الاختراق الثقافي الأهم، حيث نجح المخطط الصهيوني بيد المخابرات البريطانية في إيجاد مخترق كبير، تولد منه جميع الحركات الإرهابية والثقافات المتطرفة التي نجحت باقتدار في تجويف مكونات الشخصية المصرية.
في 14 مايو 1948 بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وإعلان دافيد بن جوريون الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية قيام الدولة الإسرائيلية وعوده الشعب اليهودي إلى ما سماه أرضه التاريخية، وهنا كانت أولى الخطوات الفعلية في طريق تحقيق الحلم المزعوم "مملكة إسرائيل".
1948 اتفاقية الجات بسويسرا، ظاهريًا هي اتفاقية لتحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق أمامها، أما الحقيقية هي اتفاقية عولمة تهدف إلى إذابة الثقافات والحدود الجغرافية وإدخال الجميع داخل بوتقة واحدة ثقافيًا وعلميًا واقتصاديًا ودينيًا كل ذلك لخدمة المشروع الصهيوني. 
وفي 23 يوليو 1952 حدثت الثورة المصرية بكل متغيراتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومن سوء حظ المخطط الصهيوني أن تلك الثورة جاءت بزعيم قومي يحمل بقوة سمات وصفات الهوية المصرية بكل مكوناتها التاريخية وهو الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي وقف بصلابة أمام أهداف الحركة الصهيونية العالمية، وما أصاب فكر تلك الحركة في مقتل هو الالتفاف الشعبي الكبير حول ذلك الزعيم.
 1971رحيل الزعيم عبد الناصر وتغييرات جوهرية في السياسة المصرية التي تلاقت بقوة مع الأهداف الصهيونية ضد الشخصية المصرية، فالتحالف السياسي مع الحركات الإسلامية المتطرفة، والدخول فيما يسمي بالانفتاح الاقتصادي، والارتماء كليًا داخل دائرة السياسة الأمريكية التي كانت تمتلك 99% من أوراق اللعبة حسب اعتقاد تلك الأنظمة، فأمريكا تمثل الخلفية للصهيونية العالمية، مما جعل الشخصية المصرية بكل مكوناتها التاريخية على طاولة التشريح والتشكيل الصهيوني.
1990حرب الخليج الأولي وبداية تدمير آخر حائط صد ثقافي للشخصية العربية، وعام 1993حرب الخليج الثانية التي احتلت العراق وقضت على ثوابته الثقافية وجعلته، منصة توطين وتسويق للثقافة الراديكالية لكل البلدان العربية.
1991خروج ما يقرب من اثنين مليون ونصف مصري من العراق الذي كانت تتوافق ثقافته الحضارية مع الشخصية المصرية، وكان البديل هو المملكة العربية السعودية، ومن هنا حدث التأثير والتغيير الكبير، حيث الحركة الوهابية التي كانت تسيطر على الثقافة السعودية وانغماس الشخصية المصرية داخل تلك الثقافة، مما جعل هؤلاء المصريين منصات نقل وتسويق وتوطين لتلك الثقافة في مصر.
كل تلك المحطات التاريخية هي خطوات داخل المخطط الصهيوني الغرض منها تحقيق أهم الأهداف "التفريغ والتجويف للمكون الثقافي للشخصية العربية وعلى الرأس "الشخصية المصرية" فكانت النتيجة كما نراها حاليًا سقوط كبير من قمة مجد شخصية الملوك الأجداد، إلى قاع شخصية الأحفاد.