رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصورة لا تعكس الحقيقة دائمًا

 

قرأت حوارًا للمستشارة الألمانية السابقة "أنجيلا ميركل" ذكرت فيه: أن الحياة فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشيوعية كانت بسيطة، وأحيانًا "مريحة" بطريقة ما.. إذ كانت هناك أشياء ليس بوسع المرء التأثير عليها. وقالت ميركل: «نعم كنت سعيدة فى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وكان يمكننى الضحك. أنا وكثيرون آخرون أولينا أهمية كبيرة إلى التمكن من النظر إلى (أنفسنا) فى المرآة كل يوم، لكننا قدمنا تنازلات، فكثير من الناس لم يرغبوا فى الهروب كل يوم أو التعرض للسجن». 

قد يصدم حديث ميركل كثيرين ممن تكونت لديهم صورة عن ألمانيا الشرقية والنظام الديكتاتورى وعمق الحريات، عن سور برلين والمئات الذين أخفقوا فى عبوره على مدى سنوات الحرب الباردة التى امتدت لأربعين عامًا، والمنشقين الذين هربوا لأوروبا الغربية. 

نعم هذا جزء كبير، وقد يكون الإطار العام والمهيمن على فضاء الصورة، لكن الحقيقة أن هناك أجزاء متفرقة من الصورة قد تم إغفالها، وهو ما تؤكده ميركل بأن ألمانيا الغربية كانت لديها «فكرة نمطية إلى حد ما» عن الشرق. 

فلم تكن ألمانيا الشرقية جحيمًا دائمًا، خاصة بالنسبة للنساء، فقد نظر النظام السابق للأدوار المنزلية التقليدية والأمومية للمرأة كأيديولوجية برجوازية، وكانوا يوفرون مقاعد للسيدات فى أماكن العمل، كما اهتموا بتقديم رعاية مجانية للأطفال لتمكين النساء من العمل، وكان القانون يفرض المساواة فى الأجور بين النساء والرجال، وفى بعض مدن ألمانيا الشرقية، اليوم، تكسب النساء فى الواقع أكثر من الرجال فى المتوسط.

وما يثير الاهتمام فى حديث "ميركل"- التى ولدت فى هامبورج عام ١٩٥٤ وانتقلت مع عائلتها إلى ألمانيا الشرقية وهى طفلة، وظلت بها حتى انهيار سور برلين ١٩٨٩- فكرة التكيف مع الحرية، وكيف كان هذا التكيف هو التحدى الذى واجه الألمان الشرقيين، فالدولة تتخد كل القرارات نيابة عنك، وليس عليك سوى التنفيذ، وهو أمر يتنافى مع واقع التعددية والانفتاح فى ألمانيا الغربية، ومن ثم فكان على الشرقيين بذل جهد كبير من التدرب على القدرة على اتخاذ قرار، أو بمعنى أدق الاختيار. 

الموضوعية التى تحدثت بها "ميركل" تدل على قدرتها على تفهم مكونات الصورة ورؤية الصالح والطالح منها، وهو أمر يحتاج لخبرة وحكمة، فنظرتنا للأمور وللصور تعتمد، فى جزء كبير منه، على خبرتنا وتجاربنا السابقة.. ففى أحد الاختبارات الشهيرة التى تعرض عليك رسمة تحمل خدعة بصرية، وتشتهر الخدعة باسم "زوجتى أم حماتى؟"، حيث لا يمكنك أن ترى سوى امرأة واحدة فى الصورة فى كل مرة، إما أن ترى فتاة تنظر بعيدًا أو أن ترى عجوزًا تحدق بجدية فى الاتجاه الأيسر من الصورة.

فالمرأة الشابة تندمج ملامحها مع ملامح السيدة العجوز بحيث يصعب تمييزهما معًا، لذا فهى خدعة بصرية "الأشهر على مستوى العالم"، تم رسم الصورة بما يحوى تأويلًا مزدوجًا لبعض ملامح الفتاة والمرأة العجوز، فذقن الفتاة الشابة يمكن أن يمثل أنف المرأة العجوز أيضًا، أما ذقن العجوز فقد تم رسمه ليشكل صدر الفتاة، كما رسمت عين العجوز بطريقة تشكل فيها أذن الفتاة الشابة.. وقد أجرت جامعة "فليندرز" فى أستراليا دراسة على ٣٩٣ متطوعًا من ٢٤٢ رجلًا و١٤١ امرأة تتراوح أعمارهم بين ١٨ إلى ٦٨ سنة، كان الغرض الأساسى من هذه الدراسة هو تحديد ما إذا كان "تفاوت العمر يؤثر فى درجة انحياز العقل الباطن فى تأويل المشاهد والصور".

استنتجت الدراسة: أن عمرك هو الذى يحدد أى امرأة ترى أولًا، فالأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين الـ١٨ والـ٣٠ سنة يرون المرأة الشابة أولًا، بينما يرى الأشخاص الذين هم أكبر من ٣٠ سنة المرأة المسنة أولًا.

قبل أن أطلع على نتائج الدراسة وجدتنى أنظر للصورة فأرى شابة تنظر فى الاتجاه الآخر ويبدو الجزء الأيسر من وجهها وترتدى قبعة، وترتدى معطفًا له ياقة كبيرة من الفرو. ورغم أننى أقترب من الخمسين إلا أن ذلك منحنى بعضًا من الأمل وكثيرًا من التفاؤل فقطعًا كنت أرى هذه الصورة بعقلى وليس بسنوات عمرى. 

فالصورة لا تقول الحقيقة دائمًا، لكنها تقول ما نراه أو ما نريد أن نراه.