رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة «عطية».. والشيخ حسنى و«طيور العنبر»

لن تضيف أى جائزة، مهما كان اسمها، كثيرًا لإبراهيم عبدالمجيد وداود عبدالسيد.. لكنها حتمًا ستضيف إلينا قدرًا من الفرح نحن نستحقه.. هى إضافة لنا نحن عشاق إبداع هؤلاء الذين أضاعوا أعمارهم بمودة ورضا كاملين من أجل إسعادنا.

نحن الذين كنا ننتظر أن نقرأ أو نسمع أن جائزة الدولة.. نعم جائزة الدولة المصرية.. سواء كان اسمها النيل- وهذا وشاح عظيم لو يعلمون- أو أى اسم آخر.. ذهبت لمن يستحقها.. وإذا كان صاحب الكيت كات.. وصاحبه صاحب طيور العنبر لا يستحقانها فمن يستحقها؟

لا أختصر تجربتى الرائعين عبدالسيد وعبدالمجيد فى هذين العملين قطعًا.. فكلاهما صاحب تاريخ طويل وممتد ومثمر.. فى السينما والأدب.. لكن كل واحد فينا من المؤكد أنه ارتبط بعمل ما.. على الأقل عمل واحد لأى منهما.. وهذا فى حد ذاته كفيل بأن نعلنهما، فى كل وقت وحين، أننا نحبهما.

قرأت مثل معظم أبناء جيلى رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان فى وقت مبكر قبل أن يتم تحويلها على يد العبقرى داود إلى شريط سينمائى مبهر.. ولم أكن قد ذهبت إلى الكيت كات بعد.. رغم أن هذه المنطقة شغلت قطعة من قلبى لوجود عدد كبير من الأحباء فيها.. ولا أعرف لماذا أتخيلها دومًا بيتًا لفؤاد حداد.

لكننى عندما شاهدت أزقتها وحواريها وشممت بهجة سكانها فى «فيلم» محمود عبدالعزيز الأشهر.. قررت أن أذهب إلى هناك.. عقلية طفولية قطعًا ذهبت بى لأبحث عن الشيخ حسنى والهرم وسكان الزقاق.. سرت مسحورًا وصورة عبدالسيد تطاردنى فأغنى منتشيًا لحن إبراهيم رجب البديع.. «وكل واحد مننا يركب حصان خياله».

الأغرب أننى كلما ذهبت إلى هناك.. اكتشفت أن خيال هذا الرجل أجمل بكثير من الواقع الذى صارت عليه.. الوراق والكيت كات وما شابهما من أحياء الجيزة.. السينما أجمل وأعمق وأقدر على بعث حياة أخرى حتى فى المدن التى ماتت.. وهكذا ظل «الشيخ حسنى» ذلك الفضاح يطاردنا حتى فى القرى البعيدة.. فقد صار رمزًا.. وحلمًا.. ليس لبطل مالك الحزين.. بل لمعظمنا، فمَنْ منا لا يعاند أقداره ويعتقد أنه قادر على ما لا يقدر عليه المبصرون؟.. جميعنا- الشيخ حسنى- فى لحظة ما.

وصار اسم الرجل سببًا كافيًا من بعدها لجرجرتى إلى قاعة السينما.. لكنه انصرف.. مرغمًا.. أو متكاسلًا- لا فرق- ولكنه ظل، وسيظل، واحدًا من هباتها العظيمة.

وهكذا فعل إبراهيم عبدالمجيد.. كانت روايته الأشهر- لا أحد ينام فى الإسكندرية- هى «عيننا» التى رأت ما لا يراه الذاهبون إليها بعيون المصطاف و«السايح».. وكان أن عشقت ما يكتبه الرجل أيًا كان اسمه.. قصة.. حكاية.. مقالًا.. رواية.. بينهما مشترك مهم بالنسبة لى.. كلاهما يرسم المدن التى فى خياله.. ليست تلك التى نراها فى الحقيقة.. وفى طيور العنبر- التى كنت أنتظر أن نراها مسلسلًا كان من المفترض أن تخرجه إنعام محمد على- رأيت نساء الإسكندرية.. على غير ما رأيناهن فى «زنقة الستات» أو فى سينما الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.. «هن طيور» قادرات على غزل تفاصيل حياة صغيرة لكنها تتسع لاحتوائهن جميعًا ومنحنا حيوات أخرى فوق تلك التى نعيشها.

طيور إبراهيم عبدالمجيد التى «حلت» على القاهرة أضافت إليها على مدار أربعين سنة «فنًا» مختلفًا عما قدمه نجيب محفوظ فى حاراته.. وخيرى شلبى فى «ريفه» البديع فى «وكالة عطية» أو «صحراواته» البديعة فى «المماليك» وغيرها.

وهى مدن أخرى غير «صعيد بهاء طاهر»، هى حيوات جديدة ومغايرة وتشبه أصحابها.. فلماذا لا نعلن محبتنا بالبنط العريض ونقول: «لقد فزنا»؟ .. جزء أصيل من تكويننا هو الذى فاز بجائزة وليس اللذين أعلنت وزارة الثقافة.. عنهما، بإرادتهما أو من غيرها.. صارا عضوين فى أجسادنا، يشعران ويتألمان ويبكيان ويضحكان ويبصران ما لا يبصره الآخرون.

بفضلك يا عم إبراهيم.. وبعينك يا خال عبدالسيد.. تجاوزنا أيامًا كثيرة كانت قادرة على هزيمتنا.. انتصرنا بكما وبمن هم فى ركابكما على «الملل» و«العجز» و«الإحباطات المتتالية»، وما أكثرها فى السنوات التى مضت.

ما أكتبه قد يراه أحدكم نوعًا من نفاق اللحظة.. فليكن كذلك.. نحن بالبلدى ننتظر أى فرصة مماثلة.. بنتلكك يعنى حتى ننضم إلى طابور الراقصين فى فرح هؤلاء الذين منحوا بلادنا «رئة» ثالثة.. دون مقابل ودون شروط.. وما أكثر هؤلاء وليتنا نحتفى بهم كل يوم.. كل ساعة.

لقد نشر الزميل مصطفى طاهر صورة له مع إبراهيم عبدالمجيد لحظة إعلان الجائزة.. أو قل لحظة تلقيه خبر فوزه بالجائزة.. «تلك الابتسامة» التى أطلت من صورة الرجل الذى صار «متعبًا».. لكنه يقاوم منذ سنوات.. كفيلة بأن تمنحنا حياة إضافية فوق التى منحتنا إبداعاته.

كم هى عظيمة لحظة الإحساس بأن هناك على ظهر الكوكب من يشاركك ما تفعل.. ظنى أنه لا أحد يستطيع تفسير حالة الامتنان تلك.. لكنها حالة سعيدة على أى حال.

كنت فى أكثر من مرة.. أتمنى أن تزيد قيمة هذه الجوائز ماليًا.. تلك التى تحمل اسم «مصر» وأن يتم «اختصارها».. إن تطلب الأمر.. لكننى قطعًا لا أدعو لاختصار الفرح.. وفرحتنا هذه المرة مضاعفة.. ليس فقط لفوز صاحبينا عبدالسيد وعبدالمجيد.. ولكن لفوز قيمة أخرى وإن رحلت عنا منذ فترة ليست طويلة فى مشهد لا يُنسى.. الكاتب والمحامى المفكر القدير رجائى عطية الذى غادرنا وهو يمارس عمله فى المحكمة.. فوز اسم الراحل فى هذه اللحظة أيضًا «مدينة ثالثة» نتخيلها.. نتمناها.

كل جائزة وأحباؤنا بخير.. كل فرح وأنتم مبدعون.