رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المجال العام والمجال الخاص

لكل منّا مجاله الخاص، وجميعنا يضمنا ويحتوينا ويقربنا المجال العام، فالأسرة هى بؤرة المجال الخاص، تلك البؤرة التى يحكمها الخاص تربية وثقافة واختيارا حسب رؤية وثقافة الانتماءات الصغرى، سواء كانت هذه الانتماءات دينية أو قبلية أو جهوية أو جنسية.. إلخ.
ويمكن أن نوصفها بالمجال الخاص «ذاتيا»، والمجال الخاص هنا لا يقتصر على الأسرة فقط ولكن هناك مجالًا خاصًا أهم وهو مكان العبادة الدينية «مسجد وكنيسة»، ويمكن أن نطلق عليه «مكان تمارس فيه الخصوصية الذات جمعية»، أى كل ما يمارس من طقوس وعادات وتعليم وتوجيهات وبناء وعى خاص يخص الدين وأتباعه ولا يخص أى آخر من غير ذات الدين.

أما المجال العام، فهو المجتمع العام الذى يضم بين جنباته كل المواطنين المنتمين إلى الوطن، ويحكمهم الدستور والقانون ولا يحكمهم قانون المجال الخاص، هنا هل توجد علاقة بين الخاص والعام؟ بلا شك، فمن الطبيعى أن تكون هناك علاقة بين الخاص والعام، وهى تلك القيم والأخلاق والمبادئ والسلوكيات والعادات والتقاليد التى تم استلامها وتعلمها من الخاص، والتى تتوافق مع مجمل الثقافة والعادات والتقاليد التى تحكم المجال العام ولا تتناقض مع أحد مكونات هذا المجال العام.
وهذا يعنى أن هناك ثقافات خاصة متعددة تخص قطاعات من المصريين أيًا كانت هذه النسب العددية لكل قطاع، ثقافة إسلامية، قبطية، بدوية، نوبية.. إلخ.

ولكن من عظمة مصر وتاريخها أنها استطاعت أن تجمع هذه الثقافات الخاصة فى إطار الثقافة العامة المصرية دون تناقض، ولكن الإشكالية هنا عندما تحاول ثقافة خاصة أو مجال خاص السيطرة على مجمل المجال العام دون الوضع فى الاعتبار أن هذا الاستحواذ وتلك السيطرة تصبح عامل تفرقة بدلًا من أن تكون عامل تجمع «الوحدة مع التنوع».
وهنا لا نقصد المجال الدينى فقط، ولكن نقصد محاولة سيطرة المجالات الخاصة على فضاء المجال العام، سواء كانت هذه المجالات الخاصة دينية أو ثقافية أو قبلية أو جهوية أو حتى مهنية.. فغياب الثقافة المصرية العامة فى إطارها العملى والتطبيقى وليس النظرى فقط، وسيطرة سلوك اللا مبالاة «عديها ومتحبكهاش»، والأهم هو ذلك الموروث الدينى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى والتاريخى الذى لم يكن يميز بين المصرى والأجنبي ولكن كان يميز بين المصرى والمصرى على أسس طائفية واجتماعية والأهم دينية- جعل هنا ثقافة يمكن أن نطلق عليها ثقافة التعالى والتمايز على الآخر، أى آخر، هنا أصبح كل صاحب مجال خاص يريد أن يسيطر على المجال العام فى الوقت الذى يعتبر فيه أن هذه السيطرة هى حق طبيعى ومكتسب وليس لأى آخر صاحب مجال خاص أن يعترض، خاصة فى إطار العددية، أى الأكثرية العددية والأقلية العددية، وهنا إذا نظرنا إلى الواقع المعيش نجد أن هناك حالة سيطرة حقيقية من أصحاب المجالات الخاصة على المجال العام دون أى نظر لا لقانون ولا لدستور ولا لمشاركة حياتية ولا لوطن واحد يجمع الجميع حول هدف واحد ومصير واحد.

فهل من حقى أن أفرض عليك وألزمك بسلوك أو ممارسة تخص مجالى الخاص وأفرضها عليك؟ هل من حق صاحب فرح أو مناسبة أو افتتاح أن يفرض عليك سلوكه الهمجى الذى يتمثل فى غلق الشوارع أو فى مكبرات الصوت هذه التى لا تحدث تلوثًا سمعيًا فقط ولكنها تؤدى إلى إرهاق نفسى وتوتر عصبى تنتهى بأمراض لا قبل لأحد على احتمالها؟
هل من حق أحد أن يفرض عليك منهجه الخاص وقانونه القبلى وتعنته العائلى وغروره المالى وسلوكه المرفوض؟ إذن هذه نماذج قليلة لهذا الخلط المتعمد، فلماذا هذا إذن؟ هناك أسباب لهذا الخلط ولتلك الممارسات.
أولها حالة من الفوضى اجتاحت المجتمع بعد الانفلات الأمنى الذى صاحب 25 يناير، لم تكن يناير سببًا ولكنها كانت كاشفة لما هو قابع فى الضمير الفردى والجمعى من سلوكيات وممارسات تراكمت فتحولت إلى ثقافة مرفوضة.
هناك موروث قبلى وطبقى واجتماعي يجد نفسه فى حالة من التعالى والتمايز على الآخر بلا مبرر، بل يكون فى غالب الأمر تعبيرا عن عدم ثقة فى النفس، هناك فكر دينى خاطئ هنا وهناك، رسخ وكرّس فى نفوس كل أصحاب دين من الأديان أنهم هم الأحسن والأصدق والأحق من الآخر الدينى.

وهنا، طبيعيًا أن يؤمن كل صاحب دين بهذا، فلماذا اعتنق دينه؟ ولكن هذا يجب أن يكون فى إطار المجال الخاص، أما ما يخص التعامل فى المجال العام فهو المعاملة الحسنة والسلوك القويم وحب وقبول الآخر الإنسانى، وهذا وغيره هو المشترك بين كل الأديان.

هناك حالة من حالات اللا مبالاة لا تهتم بالعام ولا تعنيها المصلحة العامة المشتركة، فلا تفكر فى غير مصلحتها الذاتية، فيتحول الخاص إلى عام العام.

والأهم هو هناك حالة عامة وخطيرة تتعامل مع القانون فى إطاره الورقى، فلا تطبيق ولا مراعاة ولا احترام للقانون، وهنا، وعندما يأخذ القانون هذه الإجازة يسيطر الخاص وكل خاص، سلوكًا وقرارًا، على المجال العام.

وهذا وبكل أمانة خطر كل الخطر على الأمن الاجتماعى الذى هو الباب الذهبى للأمن القومى المصرى، فلنجعل المجال الخاص بقيمه وأخلاقياته هاديًا ومؤثرًا فى المجال العام، ويكون عاملًا توحيديًا لكل المصريين بكل أديانهم وانتماءاتهم.
حمى الله مصر والمصريين، وحفظ الله المجال العام مجالًا مصريًا لكل المصريين، حتى تكون مصر وطنا لكل المصريين.