رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريجورى بك.. وعى ومتعة ورقى التمثيل

بعد أسبوع، وفى 12 يونيو 2022، يحتفل عاشقات وعشاق الفن السابع فى كل مكان بالذكرى الـ"20" لرحيل "جريجورى بك" 5 أبريل 1916 - 12 يونيو 2002، واحد من أهم وأجمل وأرقى ممثلى السينما العالمية .
كيف الخلاص من تأنيب الضمير؟ لم يتعود قلبى أن يحب ولا يسافر الحب إلى وطن الورق، أن يخفق بالعشق قلبى، كان معناه دائمًا أن تنتقل العدوى إلى قلمى، دقات قلبى لا أعترف بها وأشك كثيرًا في نواياها الحسنة إلا إذا أسمعتنى دقات الكلمات والحروف على الصفحة البيضاء.
لماذا لم أكتب عنه وهو الذى أسعدنى على مدى العمر بوسامته وموهبته ورقى عواطفه وهدوئه ورشاقة قوامه وعمق صوته وتنوع أفلامه وتجدد طموحاته ومبادئه النبيلة؟
لم أكتب عنه ربما لأننى أشعر بأن الكلمات لن تسعفنى بالقدر الذى أرضاه وربما أدرك أن الكتابة عنه نشاز، فى أزمنة تصنع من نفايات الأقزام، نجومًا يسدون علينا الشمس والهواء وجمال ومتعة الإبداع، أفسدوا الذوق وخربوا الخيال وأشاعوا الضحالة والزيف والفهلوة وثقل الدم وقبح الفكر والأداء وحولوا الفنون الراقية إلى سلع مضروبة تعبأ على المقاهى وتحت بئر السلم والكبارى فى خمس دقائق.
" جريجورى بك" تشرفت أمريكا بولادته على أراضيها وافتخر الفن السابع بالانتماء إليه، بالأمس سهرت أحتفى به وأنا أشاهد مرة أخرى واحدًا من كنوزه الإبداعية فيلم "أرابيسك" 1966، مع صوفيا لورين 20 سبتمبر 1934، وإخراج ستانلى دونين.
من أول مشهد يخطف العقل والقلب والعين والأذن والدهشة الغامضة، له طلة مُحيرة وحضور ممتلئ بالثقة والكبرياء وجاذبية فريدة الجينات، مكوناتها لا تتأثر بتغير البشر والزمن حتى آخر رمق عمل ودأب وشغف واستغناء.
منذ أول أفلامه حتى آخرها، كان الأسلوب "الجريجورى" يتجدد ولا يرضى أن يكرر نفسه، اختياراته لمواضيع أفلامه لا تعكس فقط رغبته فى التحدى الدائم لقدراته واكتشاف أرض جديدة لموهبته، لكنها تعكس أيضًا وعيًا واستنارة وثقافة نادرة وفلسفة نبيلة لإثراء الحياة ومعنى وجود الإنسان ومسئولية الفن والفنان تجاه مجتمعه والبشرية.
منذ بداياته وحتى لفظ أنفاسه الراقية الأخيرة كان يحير النقاد، ماذا  يكتبون؟ فكل مدارس النقد التى قرأوا عنها وجميع نظريات التمثيل التى درسوها لا تنطبق عليه من قريب أو من بعيد، ولذلك اكتفى البعض منهم بالدهشة الحائرة، بعضهم التزم الصمت، بعض من النقاد لا يملك شيئًا إلا أن يصافحه بانبهار، ويذهب لينام فى بيته على أمل أن يصحو وقد أدرك السر، والبعض لم يشأ أن يرى نفسه عاجزًا فترك مهنة النقد.
"جريجورى بك"، مدرسة خاصة متفردة لا تحمل إلا اسمه المنحوت على الشاشة المنقوش فى قلوب منْ أسعدهم الحظ ليشاهدوا كيف تتحول الدراما إلى معجزة ساحرة من معجزات الدنيا، مثل الأهرامات فى مصر، وتاج محل فى الهند، يحدقون فيها بالساعات ولا يفهمون أسرارها وكلما أمعنوا فى التحديق أنهكتهم وعورة الطريق، ومع ذلك يسافرون لها مرات ومرات كأن شيئًا من السِحر قد أصابهم لا يطلبون طوق النجاة وهم مثل الغريق ولا يناشدون العون وهم وسط الحريق.
كان "جريجورى بك" يدعم الحزب الديمقراطى الأمريكى، وكانت له مواقف نبيلة إنسانية عديدة مثل رفض التفرقة العنصرية والاعتراض على حرب فيتنام وسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على السيطرة على العالم والبقاء القوة العظمى الوحيدة، ومنحه بلده "وسام الحرية الأعظم" 1969، وتم ترشيحه عدة مرات لمناصب سياسية مرموقة رفضها قائلًا: «لست وراء سلطة سياسية.. رسالتى فى الفن».
كل ممثلة شاركت "جريجورى" فى مشاهد الحب أعتقد أنها كانت فى أعماقها تتمنى لو قبلات التمثيل تتحول إلى حقيقة.
ولسان حال كل مخرج عمل معه يقول: أشرد مع أدائه وأنسى المشهد التالى وأتحول من مخرج إلى مشاهد مفتون، جريجورى لا يحتاج إلى توجيه هو مايسترو العمل، الناس يذهبون لمشاهدة فيلم لجريجورى بك، وليس فيلمًا من إخراج عظماء مثل هنرى كينج أو ألفريد هيتشكوك أو روبرت موليجان أو ديفيد سيلزنيك أو ستانلى دونين أو جون هيوستون أو وليام ويار أو فريد زيمان أو ستانلى كرامر أو جى لى طومسون أو مارتن سكورسيزى أو فينسنت مينيللى.
وكل جوائز التكريم التى حصدها عن إبداعاته هى التى تفوز بحملها اسمه وليس هو، "الغنى عن كل تكريم" لا أستطيع أن أعد الأفلام السينمائية التى توجت "جريجورى بك" أعظم النجوم على كل العصور وعنها أصبح اسمه منحوتًا فى سماء لا تغيب.
ربما أذكر على سبيل المثال "أن تقتل طائر برئ" 1962 ونال به الأوسكار، "مفاتيح المملكة" 1944، "مدافع نافارون" 1961، "موبى ديك" 1956، "أرابيسك" 1966، "أيام المجد" 1944، "الآثم العظيم" 1949.
أما عن الأفلام التى شاهدتها أكثر من مرة وفى كل مرة أعيد التمعن فى كل كلمة وحركة منه مثلا "قضية بارادين، ثلوج كليمنجارو، ميراج، معبودى الخائن، اتفاق السادة، ارتفاع الثانية عشرة، مرفأ الخوف، بورتريه، النذير، عطلة رومانية، المرأة المصممة، كابتن نيومان".
أما فيلم "المسحورة" أو "المفتونة" مع أنجريد برجمان، وإخراج ألفريد هيتشكوك فهو يحولنى لـ"مسحورة ومفتونة" كما حدث مع البطلة.
فى واقع الأمر أنا حقا مسحورة ومفتونة به إلى درجة أننى من الصعب أن يخفق قلبى إلا لمنْ يشبه جريجورى بك، على الأقل فى بعض الأشياء وليس كلها بالطبع، هدوء الصوت والحركات، رقة لغة الجسد، الشَعر الأسود الغزير، الصمت الساحر، رشاقة القوام، الأناقة البسيطة، الفكر المختلف، تواضع الإنسان الممتلئ بالثراء الداخلى.
فيلمه "معبودى الخائن" 1959 مع الفنانة المتميزة ديبورا كير 30 سبتمبر 1921 - 16 أكتوبر 2007، وإخراج هنرى كينج 24 يناير 1886 - 29 يونيو 1982، مأخوذ عن الأيام الأخيرة لحياة الكاتب الأمريكى، سكوت فيتزجيزالد 24 سبتمبر 1896 - 21 ديسمبر 1940.
تقمص جريجورى بك كعادته بكل براعة ومهارة وبساطة مركبة الانفعالات، شخصية الكاتب المتوتر، القلق المحبط من عدم التقدير اللائق به وتعثر علاقاته العاطفية ويكاد يفقد صوابه لأنه أكبر بكثير مما حقق ومما هو عليه بالفعل ومما يشعر بأنه ينتظره من مصير بائس.
باقة ورد يانعة محملة بعبير الحب الجارف والامتنان، أضعها على قبر فنان لا يشبه أحدًا إلا نفسه ذات الكاريزما الآسرة والموهبة المتناثرة فى الأجواء حتى تتوقف الأرض عن الدوران.
إنه "جريجورى بك" ولا يمكن أن يكون إلا هو.
من بستان قصائدى 
- شموع أوقدتها فى أوقات الظلام.. انطفأت
- ورود رويتها فى أزمنة الصحراء.. ذبلت
- أشعار كتبتها فى عصور النثر.. اختبأت
- وسادتى التى كانت دومًا فرحة.. اكتأبت
- أحرقت قطار الانتظار.. جف البكاء فى عيونى
- وكان يوما حائط صد .. ضد الانتحار أو الاندثار
- اخترت نفسى.. لا زوج
- لا حبيب لا صديق.. سعيدة فى أحزانى
- بينما العالم فى انهيار