رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أم كلثوم ليست صنمًا

- التلويح بحبس وسجن كل من يتعرض لمطرب أو ملحن أمر غريب على من يدّعون «الليبرالية.. والتنوير»

- أم كلثوم وحياتها ليسا ملكًا لأحد.. لا أسرتها ولا نقابة الموسيقيين ولا جمعية المؤلفين والملحنين

ما حدث عقب تلك الندوة التى أقامها اتحاد كتاب مصر حول «الغناء فى الوجدان المصرى».. وخروج تصريحات لأحد المتحدثين فى الندوة مقتطعة من سياقها كالعادة.. ثم التعامل مع تلك التصريحات وكأنها نصوص مقدسة.. هناك من اعتبرها إساءة وإهانة لرمز قومى هو أم كلثوم، وهناك من زايد على الكل واعتبرها إساءة للفن المصرى ورموزه إلى آخره، مما اضطر الشاعر ناصر دويدار للخروج معتذرًا عما اعتبره البعض تعريضًا برمز مصرى لا يجب الاقتراب منه.

الأمر مدهش فى كل تفاصيله وأول أسباب الدهشة.. أننا منذ زمن طويل لم نسمع عن «اتحاد كتاب مصر».. كانت مرات نادرة تلك التى سمعنا فيها عن سيرة «الاتحاد».. وغالبًا كانت مقرونة باستغاثة الأدباء والكتّاب بالاتحاد ومجلس إدارته لإنقاذ أحد الأعضاء من مرض ما أصابه.. أو قبيل الانتخابات التى لا أعرف موعدها بالتحديد.. فكثيرون من المرشحين يظنون أننى عضو فى الاتحاد فيراسلوننى لدعمهم!!

أدهشتنى عودة الاتحاد إلى الحياة بعد سبات طويل.. وأدهشنى أكثر أنه أقام ندوة عن «الغناء»، ولأن الجميع انشغل بما اعتبره «خناقة أم كلثوم» لم نتبين ما هى علاقة اتحاد الكتّاب- وأظنه نقابة مهمتها الدفاع عن حقوق أعضائها ودعمهم ما استطاعت- بالغناء.. لم يقل لنا أحدهم.. لا الزميل الذى أثار الضجة.. ولا الشاعر المعتذر.. ولا أسرة أم كلثوم.. ماذا كان يحدث بالضبط؟.. هل هى ندوة لمناقشة كتاب عن أم كلثوم مثلًا.. أو عن رموز الغناء.. أو أنها عن أحمد رامى باعتباره رمزًا من رموز الكتّاب والغناء فى مصر وفى السياق جاءت سيرة علاقته وعلاقة إبداعه بأم كلثوم؟

الغريب فى الأمر أن ناصر دويدار كاتب.. وغالبًا هو عضو بذلك الاتحاد.. ولما تعرض لذلك الهجوم الضارى والصاخب فى آن واحد.. لم يقم الاتحاد بدوره المنوط به والدفاع عن أحد أعضائه فى مواجهة «المهاجمين» وما أكثرهم.

ثمة شىء آخر.. هل نحن نتعامل مع أم كلثوم أو غيرها من رواد الفنون فى بلادنا باعتبارهم رموزًا مقدسة يجب ألا يقترب أحدنا منهم ومن سيرتهم؟.. وماذا عن «المناهج» النقدية الحديثة التى تربط بين «الحياة» الاجتماعية لهؤلاء الرموز وإبداعهم؟!

إننى أرفض الإساءة فى مجملها.. أرفض الإساءة على إطلاقها لأى شخص، أيًا كان من هو.. وأيًا كان موقعه.. لكننى فى الوقت ذاته أرفض فكرة التقديس والكهانة التى أصبحت تتجلى فى هبّات كثيرة تطالعنا ما بين حين وآخر.

أستغرب هذه الموجة من التقديس التى تتنافى مع طبيعة الفنانين الذين يتقدمون إلى الصحف وإلى الشاشات ليحكوا ذكرياتهم وتفاصيل حياتهم بالساعات ويقبضوا نظير ذلك آلاف الدولارات.. ويمكن لمن يريد التوثيق مما أقول أن يراجع مديرى إنتاج البرامج الخاصة بسير المشاهير.. بعضها فى مصر.. وأهمها فى الخليج ولبنان.

أعود إلى أم كلثوم نفسها.. ما الذى يضير محبيها ومريديها، وهم بالملايين قطعًا.. أن تكون قد تزوجت مرة أو عشر مرات؟.. لقد صدرت عشرات الكتب حول حياة «كوكب الشرق».. وبعضها بأقلام ليست مصرية.. بل غربية فى بعض الحالات.. ومعظم من كتبوا عنها فى هذه «المراجع» تعرضوا لحياتها الشخصية، بل إن ما كتبه أستاذنا فتحى غانم منذ ما يزيد على عشرين سنة يعد دراسة كاملة لشخصيتها، بل إنه تجاوز فى تفسيره لهذه السيرة خاصة فيما له صلة بوالدها وعلاقتها به وبأسرتها ونشأتها فى الريف.. وبالكبار.. بما أسماه «العقدة» التى حاولت التغلب عليها، وهو الأمر الذى جعلها وهى فى أوج شهرتها وصهوتها تعود لتشترى أرضًا زراعية فى زمام إحدى محافظات الدلتا لتصبح «صاحبة ملك».

أم كلثوم وحياتها ليسا ملكًا لأحد.. لا أسرتها ولا نقابة الموسيقيين ولا جمعية المؤلفين والملحنين.. والتلويح بحبس وسجن كل من يتعرض لمطرب أو ملحن أمر غريب على من يدّعون «الليبرالية.. والتنوير».. فماذا يقول هؤلاء للذين يتهموننا جميعًا بإفساد الأذواق.. وباللهو.. وبأننا السبب فى كل المعاصى التى تحدث فى الشارع؟

من زاوية أخرى.. هل الاحتفاء برموزنا يتم عبر «ندوة» دُعى لها شاعر فقط ليخرج من عزلته بعد إصابته بجلطة؟.. «دويدار قال فى تصريحات متلفزة.. إن أصحابه حطوه فى الندوة ليتحدث».. هل نحن نحتاج إلى إعادة تفكيك وتخطيط فعالياتنا التى تحتفى بالرموز وبالثقافة فى مصر بشكل عام؟!

أعتقد أننا فى حاجة ماسة إلى ذلك.. فخير لنا أن ننجز «مؤتمرًا حاشدًا ولائقًا بأم كلثوم» تشارك فيه أسماء ذات ثقل.. تعرف ماذا تفعل وليس على طريقة الاستدعاء من «المقهى».. نحن فى حاجة ماسة وعاجلة لأن يعرف كل منا دوره «ويعمله».. نحن فى حاجة عاجلة لإعادة تخطيط وتسمية أهدافنا.

إذا كان البعض فى وزارة الثقافة أو اتحاد الكتّاب يظن أن الوعى المنشود فى مصر سينمو «بعدد الفعاليات» فهو مخطئ.. وإذا كان بعض مسئولينا يظن أن ملء الخانات على طريقة «اربط الحمار» سيؤدى إلى ثقافة حقيقية فهو مخطئ.. نحن وبشكل عاجل نحتاج إلى «مشروع ثقافى جديد وكامل».. يتم تنفيذه على مدى زمنى محدد.. وبطرق واضحة لا علاقة لها بشغل الإمساكيات.

ربما تكون تلك الضجة الفارغة التى جرت أحداثها طيلة الأسبوع الماضى فرصة لأن تراجع المبدعة إيناس عبدالدايم ومسئولو النقابات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى «حالة الثقافة فى مصر».. فالجهد المبذول كبير حقًا.. ويكاد يكون الفرح منصوبًا فى كل شبر فى مصر.. لكن العائد من ذلك «شبه معدوم» و«المحتوى» فج وهزلى على طريقة خناقة الشاعر وأنصار «الست».

أعطيكم مثالًا.. ولتفكروا فيه..

فى قريتى.. واحد من أقدم بيوت الثقافة فى مصر.. ومنذ ما يقرب من عشر سنوات.. انتقل هذا البيت، الذى كان فى موقع مؤجر، إلى «زريبة مواشى».. نعم- هذا ليس تعبيرًا مجازيًا- لأن الأرض المخصصة لبناء موقع جديد للبيت لم ينتبه لها أحد طيلة تلك السنوات العشر.. وذهبت كل المطالبات بإنقاذ المكتبة وتاريخ البيت أدراج الرياح.

فى الوقت نفسه.. انتهت «حياة كريمة» من إنشاء مكتبة عامة ضمن مشروعها الأعظم فى قرى مصر.. لا تبعد عن «الزريبة» سوى عشر دقائق.

هل فهمتهم شيئًا؟

طب أزيدك من الشعر بيتًا.. لقد أعلن السيد طارق الفقى، محافظ سوهاج، منذ أيام عن توفير مبلغ ١٠٦ ملايين جنيه لتطوير قصر ثقافة سوهاج- أيوه مليون- علمًا بأن القصر تم تجديده منذ سنوات قريبة.. ولا يحتاج إلى تجديد بكل هذه الملايين.. لكنه يحتاج إلى «فعاليات حقيقية» ليست لها علاقة بالمناسبات.. والفعاليات «الموسمية»!

لقد هرب الجمهور من معظم مواقعنا الثقافية لأن أحدًا لم يهتم بما يريد.. ولأن تلك المواقع تحولت إلى خواء.. إما ندوات لا جدوى منها على طريقة ندوة «شاعر الست» أو مجرد ندوات يحضرها عدد من الموظفين وأصدقائهم ليس أكثر.

سأكون مجحفًا إن قلت إن كل المواقع بهذا الشكل.. لكننا فى حاجة إلى إعادة تخطيط هذه «البهرجة» وحذف ما ليس له لزوم.. ليس معقولًا أن تكون لدينا لجنة للمهرجانات مثلًا ولدينا ميت ألف مهرجان.. وكلها شبه بعض.. وحضورها نفس الحضور ونجومها نفس النجوم «وطلاتها السنوية نفس الطلات».. وبعض هذه المهرجانات والكل يعرف «سبابيب مستترة».. أثق فى إخلاص إيناس عبدالدايم.. وفى النوايا الحسنة للكثيرين من الأصدقاء فى المشهد الثقافى المصرى.. لكن «الحالة» فى مجملها لا تسر.

أما عن «الست» وتاريخها.. فهو ليس مقدسًا وهى ليست صنمًا.. هى مبدعة كبيرة أنتجت ما يتيح لها البقاء والحماية بعيدًا عن هياج المزايدين وصخبهم الذى لا يضر ولا ينفع.