رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشامتون فى صلاح.. وجايزة طارق إمام

مثل كثيرين من أبناء المهنة.. مهنة الصحافة.. كنت أنتظر إعلان فوز المبدع طارق إمام بجائزة البوكر العربية عن روايته التى احتفى بها الكثيرون من كل أقطار الوطن العربى.. «ماكيت القاهرة».. ومثل الآلاف من أبناء مصر والوطن العربى أيضًا كنت أتمنى فوز ليفربول ببطولة أوروبا.. ليس لأننى أشجع الفريق ولكن من أجل محمد صلاح.. لكن طارق لم يفز.. وفريق صلاح أيضًا لم ينتصر.. والأمر وارد قطعًا فى أى منافسة.. والحزن وارد أيضًا لأن ما كنت تتمناه لم يحدث.. لكن ما حدث بعدها هو الغريب بالنسبة لى.. فما الذى جرى بالضبط؟.. ما الذى لخبط مشاعرنا بهذا الشكل الغريب الذى شاهدناه أيامًا متواصلة تجاوزت الأسبوع؟

فى الأوساط الثقافية حيث رواية الشاب الليبى الذى انتقلت إليه الجائزة على غير توقع.. راح الكثيرون يبحثون عن وسيلة لقراءة الرواية عبر الإنترنت أو عبر مجموعات ثقافية ضيقة.. والغريب أنه فى حالة التزاحم تلك لم أجد شخصًا واحدًا يثنى على الرواية.. بل الجميع يؤكدون «فساد الجايزة».. والرواية معًا.. وأن السبب الذى منحها ذلك التفوق هو ما تتضمنه من إباحية ومفردات «سافرة».. ومضامين «ملحدة».. إلخ.. ما لم أتمكن من معرفته لأننى مثل كثيرين لم أقرأ الرواية أصلًا.

لكن كون أن طارق إمام هو المصرى الوحيد الذى وصل إلى التصفيات النهائية بلغة برامج المسابقات وأهل الكورة.. و«القائمة القصيرة».. بلغة أهل الثقافة.. تأهلنا جميعًا كمصريين للاحتفال.. وبعضنا احتفل بالفعل قبل أن يسافر طارق ورفاقه لحفل إعلان الفائز.. وتوالى الاحتفاء بالرواية وصاحبها- وهو وروايته يستحقان ذلك.. ليس بمناسبة الجائزة ولكن لتميزهما بالأصل بعيدًا عن أى جوائز- حالة الاحتفاء تلك جعلتنا لا نتخيل 

أى وقائع أخرى.. جعلتنا نستبعد فكرة خروجهما من المنافسة أصلًا.. ومثلما هو الحال عقب أى احتفال بجائزة خرجنا نلعن الجميع.. وكلها أيام وننسى الأمر.

الحكاية ذاتها حدثت مع محمد صلاح.. أحد أهم لاعبى الكرة فى تاريخ مصر.. وقد تحوّل فى سنواته الأخيرة إلى رمز وحلم لشباب العرب من المحيط إلى الخليج.. كثيرون ينتظرون تتويجه بأهم الألقاب.. وها هو يحصدها فعلًا.. وبفضله تحوّلت المقاهى فى مصر مع كل مباراة للفريق الإنجليزى، الذى لم نكن نعرفه أصلًا، إلى منتديات كروية ساهرة.. ووجد الكثيرون من أصحاب المقاهى أرزاقهم فى هذه المباريات.. صار صلاح حدثًا فى حد ذاته.. وبالرغم من كل ما فعله الرجل على مدار سنوات للكرة المصرية وجمهورها وأهل قريته وللمصريين بشكل عام.. وجدنا من يشمت فى خروجه من المنافسة بعد هزيمة فريقه بهدف فى المباراة الفاصلة.. مباراة الكأس. 

من المؤكد أن صلاح حزن لبعض الوقت لكن حزن الرجل الذى صار محترفًا يعيش حياة المحترفين تجاوز الأمر سريعًا.. بل راح يحتفل مع جمهور فريقه بما حققه.. فهو الأهم هذا العام وهداف فريقه بالدورى المحلى.. «بتاعهم مش بتاعنا».. يعنى هناك إنجاز ما يستحق أن يفرح به.. فيما وجدنا بيننا من «يشمت» فى الرجل.. وفى خسارته.. بطريقة غريبة ومهينة، بل خرج من يهتف بغباوة لم يحسد ولن يحسد عليها «العبيط أهه».. ولا أدرى مَنْ هو العبيط فى هذه الحالة؟.

طارق إمام أيضًا.. ذهب ليحتفى بأصدقائه وبروايته فى أحد النوادى الأدبية المهمة بدولة الإمارات العربية وقد اختيرت روايته «كتاب الشهر».. وراح آلاف القراء يبحثون عن روايته التى تستحق القراءة فعلًا.. راح الكثيرون يحققون له ما أراد.. وهو ما يريده أى مبدع حقيقى «أن يتواصل مع مبدعى القراءة».. أن يصل إلى جمهوره.. وهو ما حدث وسيحدث سواء كان قد حصل على الجائزة أو لم يحصل عليها.. لكننى وجدت من يسخر من جنسية الفائز من ناحية ويستغرب أن يخرج مبدع جديد بعد إبراهيم الكونى من ليبيا المحطمة.. وهو أمر غريب بالنسبة لى.. فعشرات المبدعين الكبار خرجوا من ركام الاحتلال كما هو الحال مع شعراء ومبدعى فلسطين، أو تحت القهر كما هو الحال مع أدباء أمريكا اللاتينية مثلًا.

ما يدهشنى هو هذه المشاعر الجاهزة التى تخرج سريعًا لتحكم على الناس مبدعين كانوا أو غير مبدعين.. ذلك الموقف الأحادى الحاد جدًا فى مواجهة ما لا نعرفه.. والأكثر دهشة هو أننا لا نريد أن نعرف أصلًا.

وبدلًا من مناقشة جادة حول أهمية وجود جائزة مصرية «عليها القيمة» مثلًا.. أو الفرح بوجود جيل جديد من المبدعين ينتمى إليه طارق إمام ويحتاج منا إلى احتفاء بتجربته بشكل جديد ومبتكر.. كان يتم تدريس إبداعه فى الجامعات المصرية مثلًا بشكل مؤسسى- وليس عبر اجتهاد فردى لأحد الأكاديميين- وبدلًا من التفكير فى إصلاح منظومة الرياضة المصرية برمتها لتصبح دورياتنا على ما هو عليه الحال فى لندن التى صارت قبلة الجميع لاعبين وجمهورًا.. بدلًا من التفكير فى هذه «المجنونة» التى لم تعد لهوًا طيبًا.. بل صارت صناعة.. وصناعة مربحة أيضًا.. بدلًا من ذلك رحنا نمارس أقسى أنواع جلد الذات.. واستباحة «جهد الآخرين» بشكل فظ وسخيف.. رحنا نمارس عبثًا ليس له تصنيف بالنسبة لى حتى الآن.

جائزة طارق.. وهزيمة صلاح.. مجرد نماذج لحياة صارت غير مفهومة ومعايير «مقلوبة» وغائمة فى بلادنا.. «إحنا بنعك يا صاحبى».. ولا عقل فيما يجرى ونتداوله يوميًا مثلما نتداول «حبوب الصداع والزكام».. ولا حل عندى لمثل هذه الظواهر التى أتمنى أن تكون طارئة.. وحتى يحدث ذلك «يرحمكم الله ويرحمنا مما لا نتوقع أو نعرف».