رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد عبدالعزيز يكتب: بالصوت والصورة.. أسرار البيوت على الهواء

أكرم الله الإنسان وتفضل عليه بكثير النعم وعظيم العطايا ولكن الإنسان- وكما فعل أبو البشرية- تمرد وحوّل الهبات إلى نكبات، وأساء استخدام الخيرات فأمست بابا للمعاصي، قِس على هذا كل النعم الإلهية وحتى الاكتشافات البشرية التي ابتكرها الناس في الأساس لتخفيف أعباء أو تيسير صعوبات أو تذليل عقبات، فتجاهل الإنسان ذلك الهدف الطيب والغرض النبيل الذي اكتشفها من أجله، واستخدمها فيما يضره بل ويهلكه أيضًا. 
وعلى هذا السياق سارت مسيرة البشر مع كثير من النعم التي حولوها نقمًا بسبب سوء الاستخدام، ويمكننا التدليل على ما نقول بالتذكير بعدد كبير من المنجزات البشرية والتي صارت أدوات للقضاء على الإنسانية.

وليس أدل على ذلك من اختراع ألفريد نوبل الديناميت، ذلك المفجر الذي ابتكره للمساعدة في عمليات التعدين، فأساء البشر استخدامه وجعلوا منه أداة لتفجير البشر بدلا من الحجر، واستخدمه بعض الأشرار لأول مرة في تفجير وول ستريت سنة 1920، فأسفر عن مقتل 38 إنسانا وإصابة 143 آخرين.

وعلى نفس النهج سار البشر فحولوا الخير شرًا وجعلوا من الطيبات خبائث، وهذا ما فعلناه باختراع كان له أن يقرب المسافات ويزيد من أواصر الود والمحبة ويكشف عن مواطن الاتفاق بين البشر، ولكن الناس حولوه من وجهته الحسنة إلى وجهة مختلفة تمامًا، ذلك هو الإنترنت ووسائل التواصل عبر وسائط السوشيال ميديا، فكما أصبح متاحًا للمغترب أن يتواصل مع ذويه صوتًا وصورة وقتما يشاء وأينما كان، صار الإنسان يستخدمه بلا رقيب ولا حسيب.
ومع سهولة استخدامه وإتاحته للجميع بأموال زهيدة أصبح للبشر جميعًا الحق في استخدام الإنترنت على نطاق واسع، ومع مطلع العشرية الثانية في القرن الحالي شاهدنا من يستخدم الإنترنت ومواقع التواصل للتجسس على البشر ومعرفة تفاصيل حياتهم وخداع الناس والنصب عليهم، والأخطر من هذا هو هذه الفئة من الناس التي استخدمت منصاته للتربح.

قد يقول قائل إن هذا التربح أمر مشروع بحكم القانون، وأنا لا أختلف معهم لكن بشرط تطبيق المعايير الأخلاقية تلك التي لا يضعها كثير من مستخدمي الإنترنت في اعتبارهم- للأسف- عند الاستخدام الجائر، فلما ظهر من حققوا الأرباح نتيجة النشاط عبر الإنترنت، وأصبح هناك من يمتلك حسابات دولارية وعقارات في مدن ساحلية وتحولوا من الفقر المدقع إلى قمة القدرة الشرائية والسفر في جولات سياحية داخلية وخارجية، كل هذا لا لشىء اللهم إلا لشهرة حققوها عبر الإنترنت، هنا أصبح الثراء السهل السريع هدفًا أمام الجميع، سواء امتلكوا مؤهلات تسمح لهم بالرواج ومن ثم الربح أم لا.

وعن المتربحين من السوشيال ميديا حدث ولا حرج، فيمكن تصنيفهم بين صناع ويب وكومكس ومدونون وصناع محتوى يوتيوب، لكن ما يجمعهم- في أغلب الأحوال- هو حلم الثراء السريع، وحبذا إذا جاء المال وجاءت معه الشهرة دون عناء أو مؤهلات، ومن هنا أصبحنا نرى نماذج بشرية عديدة، منهم من استحق النجاح واستأهل الأرباح التي حققها ومنهم من تاجر أو تاجرت بجسدها وبأدق خصوصياتها على الملأ دون حياء، طالما تحققت لها الشهرة المصحوبة بالمال الوفير.

وكما هي طبيعة البشر كان هناك من أحسن استخدام الوسيلة فحق له النجاح وتحققت له المتابعة التي جلبت له الملايين، فصارت قصص أثرياء الإنترنت تروى وتتداول كما كان رواد المقاهي قديمًا يحكون القصص والحواديت عن أغنياء الحروب.

فهذا مثلا شاب اكتسب خبرات من دراسته في المرحلة الثانوية وصنع لنفسه قناة على اليوتيوب ينقل بها خبراته للمقبلين على ذات التجربة ويقدم لهم النصائح مباشرة من خلالها، وهذا شيف، يمكن أن يكون ميدان عمله هو مطابخ الفنادق، يجعل من الإنترنت منصته للشهرة وللربح السريع، وذلك كوميديان يصنع محتوى ساخرا يحقق نجاحًا على الإنترنت ويكسب أموالًا من عوائد المشاهدة من منصة اليوتيوب، وإذا به بعد أشهر قليلة قد صار نجمًا على إحدى الفضائيات ووقّع عقدًا بملايين الجنيهات ليقدم برنامجًا أو يقوم ببطولة عمل درامي.
وذلك رجل عنده مشاكل في صوته تجعل صناع البرامج الرذاعية والتليفزيونية يتحفظون على مجرد استضافته، فإذا به يقدم برنامجًا يكسر فيه كل قواعد المهنة ويحقق حلمه ليصبح نجمًا ذا شهرة وصاحب أرصدة بنكية خلال أسابيع قليلة.

وعلى النقيض تمامًا كان هناك من أساء الاستخدام لدرجة تجعله عرضة للوقوع تحت طائلة القانون فضلًا عن الاستهجان المجتمعي، وكم هي الجرائم الإلكترونية التي تابعناها مؤخرًا والتي انتهت بأصحابها إلى قاعات المحاكم ومنها إلى الزنازين، وهناك من ينتهك كل القواعد الأخلاقية والأعراف المجتمعية ضاربًا بها عرض الحائط طالما كان اختراقها هو البوابة التي ستحقق له الذيوع ولقناته الانتشار ومن ثم الأموال.
غير أن الأخطر في كل هذا الذي أشرنا إليه هو قيام بعض اليوتيوبرز باستغلال أطفالهم في صناعة المحتوى وجعلهم أبطالًا على السوشيال ميديا وهم لا يملكون القدرة على التمييز، وحتى أهلهم أنفسهم لا يملكون الأهلية ليحموا أولادهم من جنون الشهرة السريعة وتداعياتها حين يكبر الطفل فيصير مراهقًا وتتغير الأحوال من حوله أو ينصرف عنه المتابعون، وإذا كانت الأجهزة الرقابية لا تملك السلطة للتدخل في المحتوى الذي يقدمه البالغون- مهما بلغت تفاهته ومهما كان تأثيره السلبي على المجتمع- فإن من سلطة المجلس القومي للطفولة والأمومة ووزارة التضامن الاجتماعي التدخل لحماية أطفال اليوتيوب من جشع ذويهم واستغلالهم لجلب الأموال، وهو الدور الذي نتمنى على هذه الهيئات التدخل للقيام به؛ حماية للجيل الذي نبني عليه الآمال للنهوض بالوطن.