رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشدياق الأفّاق نموذجًا

هذا كتابى للظريف ظريفا 

طَلِق اللسان وللسخيف سخيفا

أودعته كَلِمًا وألفاظًا حلَت

وحشوته نُقطًا زهَت وحروفا

وبداهةً وفكاهةً ونزاهةً 

وخلاعةً وقناعةً وعزوفا

الأبيات مِن فاتحة (مقدمة) كتاب «الساق على الساق فى ما هو الفارياق»، الصادر سنة ١٨٥٥. وكنا قد انتهينا أمس إلى كلام الرئيس عبدالفتاح السيسى عن هؤلاء الذين يضعون «رجل على رجل» ويتكلمون عن موضوعات لا يعرفون عنها شيئًا، ذكّرنا بمؤلف ذلك الكتاب، فارس الشدياق، اللبنانى أو عديم الأصل، الذى عاش فى القرن التاسع عشر متنقلًا بين دول عديدة، وتحوّل أكثر من مرة بين المسيحية والإسلام، ووصفه المؤرخ والأديب اللبنانى حنا الفاخورى بأنه «لم يكن متقلبًا وحسب، بل كان عصبى المزاج ورجلًا شريرًا، إذ كان يطيب له أن يسخر ويتهكم بالناس أفرادًا وجماعات، الأمر الذى تنفر منه الطباع وتمجُّه الأذواق».

يقع الكتاب فى حوالى ٧٠٠ صفحة مقسمة إلى أربعة أجزاء، معظمها فى شكل نقاشات بين «الفارياق»، وهو اسم يجمع شطرى اسم المؤلف، وزوجته، التى سمّاها «الفارياقية». ولعلّ ثانى أكبر سقطات رضوى عاشور، رحمها الله، بعد سقطة، أو خطيئة، فشلها فى تربية ولدها تميم البرغوثى، أنها بالغت فى تعظيم وتمجيد ذلك الشدياق، وزعمت، فى كتاب عنوانه «الحداثة الممكنة: الشدياق والساق على الساق»، أنه «الأب المؤسس لفن المقالة وللصحافة العربية»، وادّعت أن ذلك الكتاب هو «الرواية العربية الأولى على الإطلاق»!. 

على العكس، وبالإضافة إلى رأى «الفاخورى»، ستجد لويس عوض، المفكر البارز وأول مصرى يترأس قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، يصف ذلك الكتاب بأنه «مستودع للدعارات والخواطر الماجنة، حتى ليخيل إلى قارئه أن فارس الشدياق لم ير فى بلاد الغرب والشرق إلا الفجار». كما أكد، فى الجزء الثانى من كتابه «تاريخ الفكر المصرى الحديث»، أن الشدياق ليس مفكرًا بل لديه مجرد انطباعات، هى صدى باهت للاشتراكية المسيحية البريطانية، بحكم إقامته فى إنجلترا وروابط عمله فيها، مضيفًا أن «كل من يعرف شيئًا من تاريخ إنجلترا يعرف الدور التخريبى الذى قام به الاشتراكيون المسيحيون لإحباط حرمة الميثاق والزحف العمالى الكبير على لندن فى ١٨٤٨، اعتمادًا على دعوتهم القائلة بأن الصراع الطبقى ليس وسيلة العدالة الاجتماعية أو التقريب بين البشر ولكن بث الفضائل الدينية فى نفوس الأغنياء والفقراء على السواء».

الأَفَّاق، فى «المعجم الوسيط»، هو الضارب فى آفاق الأرض، أو من لا ينتَسب إلى وطن. ووفقًا لـ«معجم اللغة العربية المعاصرة» هو الجوَّاب، المتشرِّد، العائش بالتّحايل، وهو أيضًا من لا يثبت على رأى واحد، مختلّ الذِّمة، والكذّاب. والمعانى كلها تناسب الشدياق، الذى غادر لبنان إلى مصر، سنة ١٨٢٦، ومنها إلى مالطة، والعكس، ثم إلى تونس ثم إلى بلاد الشام وبيروت، قبل أن يعود، مجددًا، إلى مصر ويغادرها إلى مالطة وإنجلترا وفرنسا، فإنجلترا مرة أخرى، وانتهى به المطاف فى إسطنبول، التى استقر بها حتى وفاته.

بأموال السلطان العثمانى، أسس، سنة ١٨٦١، وليس سنة ١٨٨١، كما ستجد فى العديد من المراجع، جريدة «الجوائب»، التى شوّهت حركة النهضة القومية الثقافية العربية، وقامت بالترويج لفكرة «الجامعة الإسلامية» كمذهب دينى سياسى، يرتكز على دعامتين أساسيتين: الولاء للإسلام يجب أن يسمو على الولاء للجنس والقومية والوطنية والطبقة. والوحدة الروحية الدينية لجميع المسلمين تحت راية الخليفة، السلطان الأعظم، هى النموذج الأكمل والأمثل للنظام السياسى. وحتى وفاته، لم يتوقف «الشدياق» عن التغنى بفضائل وشمائل نظام السلطان التركى، والتطاول على معارضيه، ولم يسلم أكبر أدباء وعلماء ذلك العصر من شتائمه وبذاءاته، بل إنه وشى بكثير منهم، كان أبرزهم الصحفى والأديب السورى الأرمنى، رزق الله حسون، الذى ظل، حتى الرمق الأخير، يتهم الشدياق بـ«الخنوع والإذعان للسلطان التركى وخدمته خدمة ذليلة كانت تحط من قدر وكرامة العرب»، وما يؤكد ذلك أن «الشدياق» سبّ أحمد عرابى وهاجمه لحساب ولى نعمته.

.. أخيرًا، وباختصار، كان ذلك الأفّاق منافقًا متقلبًا، إذ لم يترك بلدًا عاش فيه وامتدحه بشده، إلا وهاجمه بعنف بعد مغادرته، كما فعل مع مصر وتونس ومالطة و... و... وستجد فى «الساق على الساق» قصيدتين إحداهما فى مدح باريس والأخرى فى ذمها. وفى كتابه «الآداب العربية فى القرن التاسع عشر»، الصادر سنة ١٩٠٨، أشار الأب لويس شيخو إلى أنه «فى مدة إقامته فى تونس سوَّل إليه أعيانها بأن يعتنق الدين الإسلامى فجحد البروتستانتية طمعًا بالمناصب، كما جحد الكثلكة (الكاثوليكية) طمعًا بالمال». والأغرب أن الأب شيخو أكد أن الشدياق «طلب كاهنًا قبل وفاته ليعترف له، ومات على دين آبائه»!.