رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لبنان: بدايات التغيير

فى المقال السابق راهنت على أن الانتخابات اللبنانية ستشهد بدايات التغيير فى المنظومة السياسية اللبنانية التى شاخت بالفعل، وأصبحت مثل عصا سليمان. ولقد أخذ علىَّ بعض الزملاء تفاؤلى، ورأوا أن الانتخابات ستدعم نفوذ القوى التقليدية بشكل أكبر.

فى الحقيقة لقد تعمدت فى مقالى السابق اختيار عنوان صادم هو «لبنان الحقيقى جاى»، وهو جزء من أغنية شهيرة لمعشوقتى ومعشوقة كل اللبنانيين، وربما كل العرب «فيروز». لم يأتِ رهانى من مجرد تفاؤلى، ولكن من معرفتى الوثيقة بتاريخ لبنان، منذ قراءتى أول كتاب عرّفنى على تاريخ لبنان، وأنا طالب، وهو كتاب «لبنان فى التاريخ» للمؤرخ الكبير فيليب حتى. وربما لا يعرف البعض أننى فكرت لفترة أن أُغَيِّر الوجهة وأتخصص فى تاريخ لبنان، البلد الشقيق الذى أعشقه، ويعشقه كل المصريين، كما يرتبط تاريخه بتاريخ مصر.

جاء رهانى أيضًا على أساس قراءة متأنية للمتغيرات الكبرى التى يشهدها العالم العربى، وعلى بدايات التغيير التى يشهدها العراق الآن. ولا ننسى انتفاضة شباب لبنان والخروج إلى الساحات- حتى فى زمن الكورونا- رفضًا لاختطاف لبنان من جانب الدويلة. كما أدت الأزمة الاقتصادية الحادة التى يعانى منها الشعب اللبنانى إلى تجاوز الطائفية بشكل كبير، فالتاريخ يعلمنا أن الأزمات الاقتصادية الحادة توحد الجميع، يعود الكل إلى حالة الفطرة، أنا إنسان خلقنى الله لكى أحيا وأبحث عن لقمة العيش، وبعد لقمة العيش تأتى الولاءات الطائفية والانتماءات السياسية. مَن يعرف لبنان جيدًا يعرف أنه شعب خُلِق ليعيش، فكيف يبشره أو يرهبه قادته بأن لبنان ذاهب إلى جهنم! لا يفهم اللبنانى كيف يدفعه البعض دفعًا بعيدًا عن انتمائه العربى، ولبنان بلد القومية والثقافة العربية!

وبالفعل أثبتت نتائج الانتخابات أن لبنان الحقيقى جاى، فعلى الرغم من غياب قيادات سُنية مهمة ومقاطعتها الانتخابات فإن نسبة التصويت بين السُنة لم تكن سيئة. كما شهد الصوت المسيحى نقلة نوعية فى التصويت ضد من باع سيادة الدولة اللبنانية ومشروع توريث الرئاسة اللبنانية، وإبعاد لبنان عن محيطه العربى. لكن من الظواهر المهمة والمثيرة نجاح العديد من الوجوه المستقلة الجديدة فى دخول البرلمان، وكان هذا تتويجًا لدور المجتمع المدنى طيلة السنوات الماضية، وهى ظاهرة مهمة لمن يعرف تاريخ لبنان وسيطرة أمراء الطوائف السياسية. 

وهناك ظاهرة أخرى مهمة أرجو أن ينتبه إليها الجميع وهى أصوات لبنان المهجر، وهم مَن حملوا الهم اللبنانى معهم. إن كثافة التصويت تصُب فى الحقيقة فى صالح لبنان الحقيقى، ولا أدرى إذا كان حزب الله قد لاحظ أن هناك إحجامًا عن التصويت لدى شيعة المهجر، ولعل خير مثال على ذلك أصوات اللبنانيين الشيعة فى ساحل العاج، إذ تحدث البعض عن شبه مقاطعة من جانب هؤلاء كإجراء عقابى على تصرفات حزب الله وحلفائه فى الفترة الأخيرة. وإذا كان حزب الله وجماعة أمل قد نجحا فى الحفاظ على كل المقاعد الشيعية، فإن أرقام التصويت تشير إلى بداية اتجاه لدى الناخب الشيعى إلى مقاطعة التصويت، أو ربما تؤدى فى المستقبل إلى تغيرات مهمة.

المشكلة القادمة هى إجراء الاستحقاقات السياسية: اختيار رئيس وزراء كفء جديد، ثم رئيس جمهورية يعرف سيادة لبنان. وإلا سيدخل لبنان فى النفق نفسه الذى دخل فيه العراق: «حالة الفراغ السياسى»!