رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جزيرة السكر في صحراء المنيا

لا أعرف لماذا فقدنا شغفنا بالاحتفال.. لماذا أصبحنا نهرب من أسباب الفرح وننكش فيما هو جارح وسطحى وكئيب.

فى نفس اللحظة التى انشغلنا فيها، أفرادًا وجماعات، بفيلم هابط وتافه وسخيف اسمه «عيون أبوالهول» كان هناك عدد غير قليل من أبناء مصر يحتفلون وحدهم فى وسط صحراء الصعيد القاسية- تلك التى لم تعرف الفرح منذ سنوات بعيدة- بخروج أول شيكارة من السكر المبلور.. من إنتاج أحد أهم وأكبر مصانع الشرق الأوسط لإنتاج السكر الأبيض من «البنجر».

هذه اللحظة وحدها كفيلة بأن تتحول كل شاشات الحزن فى عيوننا إلى «البنفسج الضاحك».. لماذا قررنا فقط اختيار «ليه يابنفسج بتبهج وإنت حزين» مما يطلبه المستمعون من الأغانى العربية؟

يومان كاملان وأنا أنتظر أن نتوقف عن مهاترات وسخافات أبوالهول الذى أغمض عيونه فجأة.. ولما ذهب إليه آلاف المتطلعين- سواء من الذين صدقوا تلك اللعبة الفضائية أو لم يصدقوا- قام جدنا الصامت دومًا بفتح عيونه والابتسام مجددًا.

للحظة تخيلت أبوالهول يسخر منا بالفعل.. لماذا نقوم هذه الأيام وبشكل يكاد يكون جماعيًا بالتصدر فى الهايفة؟!

انتظرت ما يقرب من اليومين بالفعل حتى يتخلص المصريون من سخرياتهم غير اللذيذة على الإطلاق من أولئك «الطيبين» من أهل أسوان الذين استفرد بهم أربعة من «المستريحين» وسلبوهم ما يقرب من مليارى جنيه.. مع أن «البحاروة» الطيبين أيضًا نافسوهم فى الأمر سواء فى الإسكندرية أو غيرها، فالمستريحون كثر.. لكننا هذه المرة تحولنا إلى الصعيد لنصنع منه ومن ناسه نكتة جديدة.. بينما لم نفكر ولو ثوان للفرح بهؤلاء الصعايدة وهم يُشيّدون مع غيرهم من أبناء مصر مشروعًا فذًا بحق على صحراء محافظة المنيا.

الأمر لا يتوقف عند إنشاء وتشغيل مصنع جديد.. وإن كان هذا الأمر فى حد ذاته مبررًا كافيًا للبهجة.. لكن المصنع الذى يستهدف إنتاج ٩٠٠ ألف طن سنويًا من السكر الأبيض يحتاج لتشغيله، وحتى يحقق ذلك الهدف، إلى زراعة ما يقرب من ١٨٠ ألف فدان بالبنجر.. هل تدركون أهمية ذلك الرقم.. وماذا يعنى.. هل فقدتم القدرة على قراءة الأرقام وما وراءها؟!

هذه الأرقام تقول إننا نستهلك فى مصر حوالى ٣٫٢ مليون طن ننتج منها حوالى ٢٫٨ مليون طن.. وهو ما يعنى أن الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك لا تزيد على ٤٠٠ ألف طن.. فإذا ما عرفنا أن مصنع المنيا الجديد التابع لشركة «القناة» سيوفر ٩٠٠ ألف طن سنويًا.. فهذا يعنى باختصار أننا نستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتى من هذا المنتج خلال عام.. وهذا ما يعنى أيضًا تشغيل آلاف العمال من أبناء بلدنا.. وتحقيق فائض يتم تصديره إلى الخارج.. وتشغيل آلاف المزارعين أيضًا ممن يزرعون البنجر.. وقطعًا ستكون هناك خطوط إنتاج للكحول وغيرها مما لم يذكره أحد بعد.

لقد ساءنى أن يتم الإعلان عن بدء إنتاج هذا المصنع بهذه الطريقة المبتورة.. وكأننا لم نفعل شيئًا.. وبالطبع لن ألوم أهل «السوشيال ميديا».. فهم مشغولون بأشياء أخرى تذهب بهم إلى قمة «التريند» وما أدراك ما التريند.

عن نفسى.. رحت أبحث عن قصة المصنع.. فعرفت أن الاستثمارات التى تم ضخها وسيتم استكمال ضخها فى الأيام المقبلة تصل إلى مليار دولار.. خاصة أن هذا الرقم يشمل استصلاح ١٨٠ ألف فدان من أراضى الصعيد- المنيا تحديدًا- وزراعتها بالبنجر عبر استخدام المياه الجوفية.

ويهدف المشروع إلى جانب إنتاج السكر الأبيض إنتاج ٢١٦ ألف طن من لب البنجر و٢٤٣ ألف طن من «المولاس» لتصديرها للخارج.

من يعرف تاريخ صناعة السكر فى مصر يدرك أهمية المشروع.. فهذه الصناعة التى بدأت منذ ما يزيد على ١٣٠٠ سنة فى مصر.. فى الصعيد تحديدًا.. وأعاد إحياءها محمد على.. ومن بعده الخديو إسماعيل الذى أُنشئت فى عهده ١٨ مصنعًا لاستخراج السكر من القصب.. ثم أهملت تلك الصناعة لسنوات طويلة.. خاصة مع انتشار الجماعات الإرهابية منتصف ثمانينيات القرن الماضى، مما اضطر الحكومة إلى تحجيم زراعة القصب الذى كان يستخدمه الإرهابيون للاختباء فى حقوله الشاسعة.. مما أفقد الصعيد المصرى ميزة نسبية وأفقد أهله مصدر رزق.

ومن يشاهد أغنية عمنا عبدالرحمن الأبنودى وبليغ حمدى الساحرة.. يابو اللبايش يا قصب.. يدرك كم كان هذا المحصول سبب السعد فى بيوتنا.

ومعظم أبناء جيلى له ذكريات مع «كسر القصب بلونيه الأصفر والأحمر» الذى اختفى تمامًا من الأراضى المصرية الآن.

المهم أن الحكومة المصرية وهى فى سياق بعثها من جديد والاهتمام بالزراعة والتصنيع مجددًا.. سعت إلى التوسع فى زراعة البنجر.. وإنشاء مصانع السكر.. وفى عام ٢٠١٩.. ثم إنشاء شركة القناة التى أنشأت مصنع المنيا الذى نتحدث عنه.

قصة «السكر» فى العالم رواية كبيرة لمن يريد أن يعرف.. فقد بدأت زراعة القصب منذ آلاف السنين، لكن الصناعة.. صناعة السكر من القصب لم تبدأ إلا منذ ثلاثة آلاف سنة فى الهند التى اعتبرت صناعته «سرًا» حتى تم غزو الهند عام ٤٨٦ ق. م.. لتنتقل الصناعة إلى المستعمر المنتصر ليستمر إنتاجه لمدة ألف سنة فى بلاد فارس، ثم دمر المغول تلك الصناعة فى القرن الثالث عشر.. وعندما ذهب المسلمون إلى بلاد فارس اكتشفوا «سر السكر» ومحاصيل أخرى فجاءوا به إلى بلادنا.. وأصبحت مصر عام ٧١٠م المصدر الأول لإنتاج السكر فى العالم.. ومن مصر ذهب قصب السكر إلى الغرب عبر الشمال الإفريقى.. لتسيطر البرتغال فى النهاية على غالبية إنتاجه.. ومنها إلى البرازيل بعد احتلالها.

باختصار.. الحكاية مش حكاية شوية سكر.. وكباية شاى مظبوطة تعدل الدماغ.. الأمر أنك أصبحت قادرًا على التفكير مجددًا.. والتخطيط مجددًا.. والزراعة والتصنيع.. وها نحن ننتج ونقترب من تحقيق أحد أحلامنا الكبرى.. وبعد السكر.. سيأتى القمح حتمًا.. وبعد القمح سيعود «عدس إسنا».. وقطن الوادى.. وتمر أسوان، وبلح أبريم، وزيتون سيناء وتينها.

باختصار هذه مواسم للفرح.. وعلينا اقتناصها.. فما أحوجنا فى هذه الأيام إلى تلك «النشوة»، وما أحوج أهلنا فى الصعيد وفى مصر بحالها لهذا الفرح.