رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهد جنب بعضها

مشهدان متناقضان سيطرا علىّ وعلى معظم البشر خلال الأسبوع الماضى، الأول هو استشهاد الإعلامية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة على أيدى قوات الاحتلال الإسرائيلى وهى تقوم بعملها، والثانى هو احتفال نادى ليفربول الإنجليزى ولاعبيه بالفوز بكأس بريطانيا فى غرفة الملابس مع لاعب الأهلى مؤمن زكريا، الذى ذهب إلى هناك للعلاج من مرض عضال.

فى المشهد الأول تتجلى كل ألوان الخسة والنذالة والاستبداد والغرور التى صبغت المغتصب طوال تاريخه القصير، وفى المشهد الثانى على النقيض تتجلى أسمى ما فى البشر من مودة وطيبة ورحمة وبهجة، بفضل نقاء الموهوب محمد صلاح سفير كل ما هو جميل لدى المصريين والعرب. 

تداعيات المشهد الأول كانت مقبضة، ليس فقط بسبب أكاذيب الجانى وتواطؤ العالم «المتحضر»، ولكن بسبب خروج المتشددين الإسلاميين من جحور التاريخ المظلمة ليتحدثوا عن ديانة «شيرين» وعدم جواز اعتبارها شهيدة وبالتالى لا يجوز الصلاة والترحم عليها، حتى بعد أن شاهدوا اعتداء جنود الاحتلال على المشيعين فى لحظة لن ينساها التاريخ.. عبارات الشجب والإدانة الصادرة هنا وهناك توحى لمطلقيها بأنهم يحملون بداخلهم ضميرًا، وأنهم فعلوا ما عليهم، وفى الوقت نفسه ملتزمون بأمن المغتصب فى مواجهة ضحاياه العزّل أصحاب الحق.. أتأمل المشهدين وأعجز عن التعبير عن غضبى وقلة حيلتى تجاه الأول، وأعجز عن التعبير عن امتنانى وغبطتى تجاه الثانى الذى يتجاوز الشِعر فى أعلى تجلياته.

بين المشهدين تابعت معارك صغيرة بين كُتّاب الروايات حول المجد المنتظر والجوائز المرتقبة، معارك أبطالها يحشدون مؤيديهم فى سبيل الانتصار فى موقعة إثبات الذات بحماس لم تنعم بها قضية من قبل، لن أذكر أسماء، لأننى أعرف معظم الأطراف، وتربطنى ببعضهم صداقات حقيقية، ولا أريد أن أكون جزءًا من صراع من هذا النوع، ولكنى أحاول قراءة المشهد بعين شخص يحب الكتابة ويؤمن بأن المبدعين فى مصر هم أجمل ما فى مصر، ولكن كيف وصلنا إلى هذا المستوى من التدنى؟.

وسائل التواصل الاجتماعى صنعت نجومًا وصنعت ذائقة خفيفة وزعماء افتراضيين، ولم تعد هناك حاجة إلى حَكم يمكن الاحتكام إلى رأيه، فقط يوجد مناخ شعبوى فرّغ المشهد الثقافى من قيمته.. لست ضد الجوائز، لأنها تسلط الضوء على الحيوية الموجودة فى الحياة الثقافية، وأفرح حين يفوز أحدهم إذا كان يستحق.. بالطبع يوجد فساد فى جوائز كثيرة، وتوجد توجهات لاستبعاد طرائق فى التفكير والقنص.

ومع هذا أفترض دائمًا أن القادم سيكون أفضل، ولن يُظلم أحد، وأحلم بأن يتكاثر نجوم الإبداع الأدبى لكى يتوارى نجوم الدعوة الكاجوال ونجوم التوك شو المفروضون على الناس وهم لا ينتجون شيئًا ذا قيمة.. أردد دائمًا أننا نملك حالة كتابة روائية جيدة فى مصر، خصوصًا فى فن الرواية الذى لا توجد تقريبًا جوائز إلا له، ولكننا لا نملك كتابة عظيمة، ربما ستأتى فيما بعد، ولكنها غير موجودة بالفعل، الرواية فن عظيم، وهى بنت الزمن والتجربة، وتحتاج طاقة روحية تتجاوز فكرة أنك تمتلك حكاية يمكن كتابتها.. فى الشعر الوضع مختلف، ففى مصر الآن شعر عظيم غزير، وفى كل الأجيال، ولكن السوق لا تحتاج شاعرًا جديدًا يخاطب جمهورًا خاصًا تدرب كثيرًا على التلقى، السوق فى حاجة إلى كُتّاب حكايات ودراما لكى يشعر الجمهور العام بأنه داخل حكاية ما، وأنه غير معزول عن العالم، وأنه يستطيع أن يكتب حكايته.

ولا أنسى مشهدًا للأستاذ نجيب محفوظ وهو جالس على مقهاه المفضل فى ميدان التحرير ذات شتاء، فى الثمانينيات، كان الجو شديد البرودة، والصباح يقول باسم الله الرحمن الرحيم، وكانت طاولة الأستاذ تطل على الميدان من زاوية ترى من خلالها الذاهبين إلى العمل بملابسهم الثقيلة ووجوههم المتعبة المتجهمة التى تعانى من قلة النوم، مشهد مألوف فى الصباح، ولكن فى هذا المكان توجد أعداد كبيرة، فجأة ظهر رجل فى منتصف الأربعينيات من عمره، يلبس قميصًا صيفيًا مبهجًا ويخترق المشهد مبتسمًا كأنه فى طريقه إلى خبر سار أو إلى نصر محقق، خطف هذا الرجل انتباه الأستاذ، ومد عنقه قليلًا تجاه الميدان وأشار إليه وهو يخاطب الجالسين معه، وقال كأنه يحدث نفسه:

- «عارف الراجل الجميل ده.. عنده حكايات أكتر من اللى عندى وعند الأستاذ إدوار الخراط».. واعتدل فى جلسته مرة أخرى، وقال بصوت يملؤه الأسى: «بس يا خسارة ما بيعرفشى يكتب».