رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتخابات 87.. وميلاد شعار «الإسلام هو الحل»

تنوعت دعوات الإخوان إلى ضرورة الالتفاف حول «مبارك» ودعمه بعد توليه السلطة عام ١٩٨١، وبدت وكأنها تسعى مع الساعين إلى تبريد الجسد المصرى الساخن الذى بلغ قمة الاشتعال باغتيال الرئيس السادات.. لقيت هذه الدعوات صدى جيدًا لدى العديد من الكتّاب والمثقفين اليساريين.. على سبيل المثال امتدح يوسف إدريس، فى مقال له بعنوان «كلمتان للرئيس والمعارضة»، الدعوة التى تبناها الإخوانى «حسن دوح»- أحد زعماء الطلبة بالجامعة- إلى الالتفاف حول مبارك، من منظور البديل لذلك مخيف مخيف، وأكد «إدريس» أنه مع هذه الدعوة قلبًا وقالبًا.

كان يجلس على كرسى المرشد العام لجماعة الإخوان فى ذلك الوقت الشيخ عمر التلمسانى، وهو الرجل الذى ارتبط باسمه الميلاد الجديد للجماعة بعد المواجهات العاصفة التى وقعت بينها وبين نظام جمال عبدالناصر خلال الخمسينيات والستينيات، وترتب عليها سجن العديد من كوادرها، وإعدام بعضهم، وقد تولى منصب المرشد بعد وفاة المستشار حسن الهضيبى- المرشد الثانى للجماعة- عام ١٩٧٣، ومال إلى التهدئة والتسحب والتمدد المتأنى فى الواقع المعيش حتى يكسو هيكل الجماعة، الذى بات عظميًا، لحمًا بشريًا برفدها بعناصر جديدة انضمت إليها عبر المساجد والجامعات.. عرف الرأى العام المصرى «التلمسانى» عبر شاشات التليفزيون حين خاض معركة كلامية شهيرة مع أنور السادات، بدأت باتهام وجّهه الرئيس للجماعة بالعمالة والتخريب وإشعال الفتن الطائفية، وتمكن «التلمسانى» من تفنيدها، وأنهى تفنيده بعبارة قال للسادات فيها: «إنى أشكوك إلى الله»، كان لها تأثيرها على الشعب العاطفى.

الاتجاه نحو التهدئة مع السلطة المباركية الجديدة كان واضحًا لدى عمر التلمسانى وقيادات الجماعة المختلفة، وقد تقبله «مبارك» وعمل معهم على أساسه واتجه هو الآخر إلى التهدئة معهم، ولما اتجهوا إلى الانخراط فى النقابات المهنية، والمشاركة فى انتخاباتها، لم يوقفهم، الأمر الذى مكّنهم من السيطرة على مجالس إدارات عدة نقابات، من بينها: الأطباء والمهندسين والمحامين، وبات لهم ممثلون داخل مجالس نقابات أخرى مثل الصحفيين والصيادلة وغيرهما.. تحول بعض النقابات إلى منابر للإخوان، بدأت الجماعة تتحرك من خلالها فى الترويج لأفكارها وتوجهاتها، كما حدث عبر الحملة التى قادتها لجمع التبرعات للمجاهدين الأفغان خلال حربهم مع السوفيت.

احتار الشارع المصرى المتابع لتغلغل الإخوان داخل النقابات فى الأمر، وتبنى قطاع منه رأيًا يذهب إلى أن الإخوان بالفعل كثرة وجماعة تمكنت من التسرب إلى كل القطاعات المهنية فى مصر، الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين والتجاريين والصحفيين وغيرها، وهى أيضًا تعمل بنشاط داخل الجامعات، وتسيطر على الطلبة، أضف إلى ذلك أعضاء هيئة التدريس بعد أن باتوا يشكلون أغلبية داخل مجالس إدارات بعض نواديهم، وكله بالانتخابات، وساد لدى الكثيرين إحساس بأن الإخوان أكثر انتشارًا وأشد تأثيرًا فى الجموع المهنية المختلفة، وإلا بماذا نفسر تلك النجاحات المتوالية فى السيطرة بالانتخابات على النقابات والنوادى المهنية؟

فى ذلك الوقت طرح الكاتب «يوسف إدريس» تفسيرًا أكثر رصانة يجيب عن هذا السؤال، شرح من خلاله أن نجاحات الإخوان فى السيطرة على النقابات مردّه «سلبية المجموع» و«نشاط الأقلية»، فالإخوان داخل كل نقابة يشكلون أقلية، لكنها أقلية نشطة وتتحرك بالأمر لتشارك فى الجمعيات العمومية للنقابات وتدلى بصوتها بشكل منظم لصالح المرشحين من أعضائها، فى حين تكسل الأغلبية الساحقة من أعضاء هذه الجمعيات العمومية عن المشاركة وتترك الملعب خاليًا للجماعة، وتكون النتيجة فوز مرشحى الإخوان بفضل أقليتهم الأكثر مشاركة.

التفسير بدا واقعيًا للغاية، ونبّه الناس إلى واحدة من البديهيات الغائبة عنهم فى لعبة الانتخابات خلال هذه الحقبة، والمتمثلة فى استغلال عزوف الأغلبية عن المشاركة والسيطرة على المواقع الانتخابية عبر «الأقلية المشاركة»، إنها لعبة محفوظة، ليس فى انتخابات النقابات المهنية فقط، بل فى انتخابات مجلس الشعب- حينذاك- أيضًا. فأغلب الدوائر التى يعيش فيها مئات الألوف من البشر كان يحسم الفوز بمقعدها فى انتخابات مجلس الشعب المرشح الذى يستطيع حصد بضعة آلاف من أصوات قاعدة الناخبين فيها.

لم يكن هذا الفهم غائبًا عن السلطة المباركية، لكنها منحت الإخوان فرصة التواجد داخل النقابات، فى إطار معادلة توازن قائم على السيطرة، لأن الفرصة التى نالتها الجماعة على هذا المستوى كانت تحت سيطرة السلطة، وينطبق هذا أيضًا على مسألة إتاحة الفرصة أمام الجماعة لترشح عددًا من كوادرها فى انتخابات مجلس الشعب، فقد تم ذلك بحسابات دقيقة كانت تحدد فيها السلطة عدد المقاعد التى يحصل عليها الإخوان وفى أى دوائر، ما يعنى أن الجماعة تحركت خلال هذه الفترات فى إطار خط رسمته السلطة السياسية، ولم يكن لها أن تسير بعيدًا عنه.

ومثّلت انتخابات عام ١٩٨٧ نموذجًا تطبيقيًا لمعادلة التهدئة بين الطرفين، فقد فوجئ المصريون وقتها بالإخوان تشارك فيها على قوائم حزب العمل الاشتراكى، وكان الحزب قد بدأ يكشف عن وجه إسلامى يعكس جذوره الأصيلة التى تمتد إلى جماعة مصر الفتاة، التى أسسها أحمد حسين فى ثلاثينيات القرن الماضى، وتبنت خطًا فكريًا يخلط بين الأفكار الدينية والأفكار الاشتراكية.. خلال هذه الفترة ظهر رئيس حزب العمل المهندس إبراهيم شكرى، وزير الزراعة الأسبق فى عصر الرئيس محمد أنور السادات، وقد أطلق لحيته، وبدأ الإخوان يظهرون داخل مقر الحزب بشارع بورسعيد بالسيدة زينب بكثافة.

شعبيًا، أصيب الرأى العام المصرى بدهشة كبيرة وهو يلاحظ حالة الظهور العلنى التى أدى بها الإخوان، فلأول مرة فى تاريخهم بعد الثورة تنتشر اليافطات والملصقات التى تحمل شعاراتهم داخل العديد من الأحياء، بما فى ذلك المصحف والسيفان، وداخل دائرة السيدة زينب التى ترشح فيها نجل حسن البنا المحامى «أحمد سيف الإسلام» ظهرت صورة حسن البنا إلى جوار نجله على اليافطات.. اللافت أيضًا خلال هذه الانتخابات ظهور شعار «الإسلام هو الحل» لأول مرة، كشعار حامل لفكر الجماعة فى إدارة المشهد داخل مصر.. وزادت الدهشة أكثر لدى الناس وهم يرون كوادرها تنظم مسيرات شعبية فى شوارع القاهرة تهتف: «الإسلام هو الحل.. ناس فى العز وناس فى الذل.. الإسلام هو الحل.. والخير ماله شح وقل.. الإسلام هو الحل.. شرع الله عز وجل».

تساءل الناس حينها: هل يمكن أن يمارس الإخوان هذا القدر من الحضور داخل الشارع دون إذن أو سماح من «مبارك»؟. وكانت الإجابة أن الجماعة تعيش واحدًا من أشهر العسل بينها وبين السلطة التى حكمت مصر بعدالعام ١٩٥٢.