رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلف الميري: سمير سرحان واجه الأفكار الظلامية فى التسعينيات.. وهذه شروط الكتابة التاريخية (حوار)

الاستاذ الدكتور خلف
الاستاذ الدكتور خلف الميري

ساهم فى مجال دراسة التاريخ الحديث والمعاصر، وسجل مشاركاته فى لجان ومشروعات كتابة التاريخ العام والصحفي، لعل أبرزإنجازاته تجربته فى جريدة الأهرام مع دكتور يونان لبيب رزق لكتابة تاريخ «الأهرام ديوان الحياة المعاصرة»، والتى صدر منها ما يقرب من ٦٠٠ حلقة وكان يجمع كبار الكتاب لطفى الخولى ومحمد سيد احمد وثروت أباظه، إضافة الى دوره الفاعل فى مشروع مكتبة الأسرة، وعضويته العديد من لجان التاريخ فى المجلس الأعلى للثقافة والجمعية التاريخية، وغيرها.

ولأننا نعيش الآن مرحلة نستشرف فيها مستقبلنا؛ كان لزامنا علينا أن ندرس تاريخنا وحاضرنا جيداً حتى ننطلق لآفاق المستقبل، وهو ما نجده عند الأستاذ الدكتور خلف الميرى أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، وإلى نص الحوار: 

بداية.. كيف يرى دكتور خلف عبدالعظيم الميري المؤلفات التي صدرت مؤخراً وتتناول في مجملها كتابة تاريخية مضادة للسائد سواء عن الزعماء أو الفنانين المصريين؟  

- بداية لابد أن نفرق في الكتابة التاريخية بين التناول الذي تدعمه الوثائق والمصادر وغيرها في إطار كلي والنقد والتحليل وهذا هو المنهج العلمي، وفى هذه الحالة فلا مانع من إعادة النظر في تناول الشخصيات والأحداث بشرط ظهور وثائق وأدلة جديدة تدعم إعادة النظر، أما أن تكون الكتابات وفق آراء لا تدعمها أدلة أو أنها تعتمد على وثائق أو أدلة منتقاة، فهذه ليست كتابة علمية وإنما كتابة أيدلوجية، أو سياسية، أو طائفية، أو ذات وجهة معينة، وأحيانا تتخذ عناوين غير مألوفة أو مثيرة أو صادمة لإحداث الترويج، ومثل هذا النهج الانتقائي أحادي الجانب؛ لا يُمكن اعتباره نهجا علميا.

وبصفة عامة فإن هذه الأمور قد تبدو لدى هواة الكتابة التاريخية، أكثر مما هو لدي الباحثين والأساتذة الأكاديميين، وهذا القول ليس علي صفة الإطلاق، ففي كلا الجانبين استثناءات، فالشخصيات التاريخية تحمل في طياتها إيجابيات وسلبيات، وهذا ما يُميز منهج البحث التاريخي عما سواه؛ أنه لا يفترض وجهة نظر مُسبقة يجمع الأدلة لإثباتها، وإنما يتناول الشخصية أو الحدث في مختلف ظروفه التاريخية ونقاط القوة والضعف وتحليل مختلف جوانبها، وما ينتهى إليه تكون هي الحقيقة أو الأقرب لها، لأنها نسبية وليست مطلقة.

وعامة فمن يتناول هذه الجوانب لابد أن يمتلك الأدلة التي تؤيد ما يقول، وليست المسألة إطلاق الأحكام على عواهنها، أو تكون الآراء وليدة الأهواء سواء بالقدح أو المدح، وهذا ينطبق على مختلف الشخصيات والأحداث.

دعني أعطيك مثالا لشخصية تاريخية شهيرة مصطفي كامل، وقد شاركت في تحقيق أربع مجلدات من تراثه مثلما درست أعماله الأخرى، فقد رفعه مؤيدوه ومنهم عبدالرحمن الرافعي لمرتبة أنه باعث الحركة الوطنية، وكأنما الحركة الوطنية قبله كانت في موات، ونفر آخر اعتبروه من المؤيدين تماما للدولة العثمانية والداعي للجامعة الإسلامية على حساب الولاء الوطني لمصر، والفادحون يرونه ديماجوجيا غوغائيا مُهيجا، مُسرفا أنفق أموال الخديوي عباس حلمي الثاني علي ملذاته، وكل هذه الأحكام ناقصة، وإنه في عالم السياسة لا يُمكن ثبات المواقف طيلة الوقت لأن كل حدث ظروفه، مثلا علاقة مصطفي كامل والخديوي عباس الثاني كانت أقوي ما تكون في سنواتها الأولي وتكوينهم جمعية سرية للدفاع عن القضية المصرية، ولم تكن النفقات للملذات قدر ما كانت للدعاية والإعلام بالقضية في أوروبا، ومن ثم لم تكن شأنا شخصيا، ثم انفصمت عُري هذه العلاقة بعد توقيع مصر وإنجلترا الاتفاق الثنائي الخاص السودان في 18 يناير 1899م، وبعدها اعتمد مصطفي كامل علي نفسه والشباب الوطني فأنشأ جريدة اللواء، كذلك فإن ولاءه وتشيعه للدولة العثمانية كان لبعض الوقت؛ حين اعتقد إمكانية نجاح السلطان العثماني في إنقاذ مصر من ربقة الاحتلال البريطاني، ولكنه بعدما تيقن فشل هذا الاعتقاد إثر توقيع إنجلترا وفرنسا وفاقا وديا (استعماريا) عام 1904م، وعندها أدرك أنه لا جدوى من هذا أو ذاك، وإن خلاص مصر لا يكون إلا بأيدي أبنائها.

ولذا أوجد مصطفي كامل حالة كبرى من العمل الوطني والحراك الثوري، وسعي بكل السُبل لإشعال الحركة الوطنية وتغني في مقالاته وخطبه وكل تحركاته بمصر دون سواها، وأصبحنا نردد كلماته الخالدة " لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا" و "لا معني لليأس مع الحياة ولا معني للحياة مع اليأس" و "إن مصر حبي للمصريين أجمع” و "إن مصر جنة الدنيا وأن شعبًا يسكنها ويتوارثها لأكرم الشعوب إذا أعزها وأكبرها" و" بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. لك حياتي ووجودي، لك دمي، لك عقلي ولساني، لك لُبي وجناني، فأنت أنت الحياة.. ولا حياة إلا بك يا مصر "وهو الذي استلهم منه يونس القاضي النشيد الوطني الذي لحنه قبلئذ سيد درويش ثم بعدئذ محمد عبدالوهاب، وما ينطبق علي شخصية مصطفي كامل ينطبق أيضا علي سعد زغلول ومصطفي النحاس وغيرهم.

وفى هذا المجال أشير علي سبيل المثال أيضا لضرورة فهم الشخصيات التاريخية في مختلف ظروف مراحلها، وليس وضعها ككل في إطار واحد، فإن ما لا يعلمه كثيرون أن مصطفي النحاس باشا الذي تولي زعامة حزب الوفد سبتمبر 1927م بعد وفاة سعد زغلول، كان في الأساس من أتباع ومريدي مصطفي كامل ومن كوادر الحزب الوطني، وتدرب على المحاماة في مكتب محمد فريد، الذي تولى قيادة الحزب بعد وفاة مصطفي كامل، وكان النحاس ورفاقه في نادي المدارس العليا خميرة ثورة 1919، التي وُلد من رحمها حزب الوفد.

لعبت دوراً كبيراً في الحياة الثقافية على مدى أكثر من ٣٠ عامًا أبرزها إسهاماتك في مشروع مكتبة الأسرة.. في رأيك لماذا تراجع هذا المشروع الآن وما المطلوب لاستعادته؟ 

- لابد من التذكير بأن فكرة نشر الثقافة ترددت منذ فترة مبكرة على أيدى طه حسين وتوفيق الحكيم وآخرون، مثلما عقدت ندوات محلية ودولية طالبت بتعميم القراءة ونشر الثقافة؛ ولكن مشروعنا هذا تم إطلاقه في السنة الأولي 1993م بعنوان (المواجهة) وكان مشروعا تنويريا في مواجهة الأفكار الظلامية والاغتيالات التي قامت بها الجماعات الدينية لرموز سياسية مثل دكتور رفعت المحجوب، ومفكرين كان أكثرهم درامية اغتيال دكتور فرج فودة في يونية 1992م، إثر تحريضات في أعقاب المناظرة الشهيرة التي دارت في معرض الكتاب، وللتاريخ فقد كان دكتور سمير سرحان صاحب فكرة إطلاق هذا المشروع الثقافي، واعتبره مشروعا تنويريا حتميا في مواجهة الأفكار الظلامية التي أخذت تستشري آنئذ، ودعني أخصكم بسر أن عنوان المواجهة تم اقتباسه من كتاب للدكتورة فادية سراج الدين صدر 1993م عن الهيئة بعنوان (المواجهة: مصر وإسرائيل 1952-1956م) وكان قد اقترح لها هذا العنوان الكاتب أنيس منصور، حيث تم اعتبار مواجهة الإرهاب والأفكار المتطرفة معركة؛ لا تقل ضراوة عن مواجهة أعتي الأعداء.

وأذكر أننا أصدرنا خلال شهر واحد 40 دراسة مستلة متنوعة من تراث الإنسانية، ثم توالت الإصدارات، وكانت المطابع تعمل ليل نهار، فيما اعتبرناه معركة حقيقية من أجل التنوير، وكان لي شرف المشاركة فيه منذ اللحظات الأولي مع نخبة من المثقفين وكثيرا منهم في رحمة الله، ورؤي تغيير العنوان في العام التالي لمكتبة الأسرة في إطار مهرجان القراءة للجميع، ونال رعاية السيدة سوزان مبارك في السنة التالية 1994م، وخاصة أن رسالتها للماجستير كانت تبحث في تنمية المناطق الشعبية بدءا من عرب المحمدي، ونتيجة لرعايتها شاركت غالبية الوزارات في المشروع وخاصة وزارة الثقافة، وزارة الإعلام، التربية والتعليم، التنمية المحلية، الشباب والرياضة، ومؤسسة الرعاية المتكاملة وغيرها.

مسألة تراجع المشروع مرتبطة بالحالة العامة التي نعيشها الآن حيث استشرت فيها الوسائل التكنولوجية والثقافة المقروءة عبر الإنترنت، وعمليات القرصنة وغيرها، مما أصبح يحد من طباعة وانتشار الكتاب الورقي، وهناك نقطة مهمة جدا كانت ترتبط بمسألة التمويل وتخصيص الوزارات ميزانيات ضخمة للمساهمة في المشروع سواء بالدعاية أو التوزيع، وفى أحيان كثيرة كانت وزارة التربية والتعليم تشتري كمية من المطبوع وتوزيعها على المدارس، والشيء ذاته بالنسبة لمراكز الشباب والجامعات وغيرها، باختصار كان الدعم يرد للمشروع من مختلف الجهات، وليس اقتصارا علي هيئة الكتاب ومؤسسات وزارة الثقافة، وإتاحة الفرصة لمشاركة القطاع الخاص ومنحهم حقوقا للطباعة والتوزيع بالإضافة إلي تنوع الإصدارات في مختلف المجالات.

باختصار كانت مكتبة الأسرة تدور في فلك مشروع قومي؛ ولجنة عليا لمهرجان القراءة للجميع، تشارك فيه مختلف الوزارات وجهات سيادية، وهذا كان يوفر الدعم والميزانيات وكافة الإمكانيات، وهذا يفوق كثيرا مما ما تقوم به وزارة الثقافة منفردة، أو هيئة الكتاب، وهنا لا بد من توجيه التحية لوزيرة الثقافة ودكتور إيناس عبدالدايم، ودكتور هشام عزمي أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ودكتور هيثم الحاج رئيس هيئة الكتاب ونائبه دكتور أحمد بهي الدين وقيادات هيئات ومؤسسات الثقافة ومعاونيهم، لما يبذلونه من جهد في الحفاظ على استمرارية المشروع رغم كثرة التحديات.

أطلقت الدولة المصرية بعض المسابقات والبرامج لاكتشاف المواهب الفنية والثقافية الفترة الماضية.. هل نحن في حاجة لاكتشاف جيل جديد من المؤرخين المصريين في كل محافظات مصر؟ 

- مسألة اكتشاف المواهب الفنية والثقافية في المحافظات المصرية مطلب ملح دائما وأبدا، وهذه معاييرها ومنطلقاتها إبداعية، وإن محاولة اكتشاف جيل جديد من المؤرخين في كل محافظات مصر شيء مختلف، فهذه ترتبط بالإعداد الأكاديمي وهي متوافرة بدرجات نسبية في مختلف جامعات سائر المحافظات المصرية، مثلما توجد الجمعية المصرية التاريخية التي تُعتبر البيت الرئيسي الذي يضم شباب الباحثين والمؤرخين؛ ولكن تظل المشكلة قائمة هي كيفية استفادة الجهات المختصة بالناتج البحثي في الدراسات التاريخية. 

راجعت عدة أعمال ومسلسلات درامية في التلفزيون منها نجوم في سماء الحضارة الإسلامية ومسلسل أدهم الشرقاوي ومسلسل الصفعة وغيرها.. ماذا عن مسألة أن أدهم الشرقاوي كان مجرماً وليس بطلاً شعبيا؟ 

- الأعمال الدرامية لابد أن تراعي ثلاث أركان أساسية هي الزمان والمكان والأشخاص، وما بينهم مساحة الدراما أو المنطقة الفراغية أو الرمادية؛ التي تحتمل بعض الحبكات أو الإضافات التشويقية، لكن شريطة ألا يكون على حساب الحقيقة التاريخية، وإن أدهم الشرقاوي حين نضعه في سياق ظروفه الشخصية وبيئته وأحداث الفترة والمواجهات الوطنية مع المحتلين ومن ارتبطت به مصالحهم، سندرك بواقعية شديدة أنه ابن الفترة وظروفها التي انتهج فيها الحزب الوطني العنف الثوري والنضال السري، ومثله عشرات ومئات الشباب الذين انخرطوا في العمل الوطني بمختلف السُبل؛ وكان من بينهم من ينتمون إلي مدارس عُليا (كليات)؛ كل منهم في جماعته أو منفردا بطريقته، فلا يمكن لأدهم وهو شاب موسر يجيد لغات أن يكون لصا مجرما أو قاطع طريق، أما أن يكون مقاوما للاحتلال أو كبار الملاك ممن توافقت مصالحهم معه، فقد كان هذا نوع من النضال الوطني.

"الاختيار 3" قدم بعض التسجيلات بالصوت والصورة كشفت أكاذيب جماعة الإخوان.. هل ترى أن الدراما تصلح كوثيقة تاريخية وما المطلوب الفترة القادمة لإعادة قراءة تاريخ الجماعة وتفنيد خطابها؟

- هناك ما يُمكن اعتباره عملا فنيا إبداعيا خالصا، وهناك ما يُمكن أن عملا إبداعيا ممتزجا بحقائق تاريخية، وهناك ما يُمكن عملا تسجيليا، وأري أن مسلسل الاختيار مزج بين الجانبين الإبداع الدرامي وإذاعة تسجيلات حية في صميم الأحداث، الأمر الذي أوجد حالة من المصداقية، وهذا يُفسر الإقبال الجماهيري منقطع النظير علي متابعته، فضلا عن معايشتنا كثيرا من الأحداث الأمر الذى أضفي مزيدا من المصداقية.

وبطبيعة الحال فإن الدراما مثلما تستقي أحداثها من التاريخ، فهي يُمكن أن تكون أيضا زادا ومعينا لا ينضب للتاريخ، فإن هناك أمور تعجز الوثيقة عن البوح بأسرارها، مثل الحياة والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد وغيرها؛ على صعيد الأفراد والجماعات والشعوب والمجتمعات، قد تُقدم الدراما مفرداتها وتفصيلاتها بصورة تفوق جمود الوثائق، ومن ثم تُوفر الدراما هذا الغطاء الإبداعي، ولكن الجوانب التسجيلية تكون أكثر مصداقية كدليل تاريخي، مع ملاحظة أن الباحث في التاريخ لا يأخذ كل هذه الأمور كمُسلمات دون نقاش، وإنما يُقارنها مع مصادر أخري حتي يتبين له مدى الاعتماد عليها.

أما عن المطلوب الفترة القادمة لإعادة قراءة تاريخ الجماعة وتفنيد خطابها بعد جرائمها في حق الشعب المصري؟ أري أن المطلوب مستقبلا يتطلب جهدا أكثر مما مضي؛ وتضافر مختلف جهود الباحثين وسائر الجهات، في التتبع التاريخي الذي تدعمه الوثائق عن الجذور والمكونات والأذرع الإقليمية والدولية للجماعات المتطرفة ككل، لأن خطرها لم يعد محليا وإنما أصبح داهما يهدد مختلف الدول بدرجات نسبية، وبالتالي لابد من تناول جذوره أيا كان مصدرها بعمق، وفي نفس الوقت تتبع وفضح فصائله ومكوناته ومقوماته وأذرعه أيا كان مجالها محليا أو خارجيا.