رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«اللجان الإلكترونية».. متى يتوقف «غزو البلهاء»؟

 

مع بداية انتشار منصات التواصل الاجتماعى، قال المفكر والفيلسوف الإيطالى الشهير، أمبرتو إيكو، فى مقابلة مع صحيفة «لا ستامبا» الإيطالية ما نصه: «إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فى البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأى ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء».

عندما وجه إيكو تحذيره ذلك، لم تكن وسائط الكلام والبث والفضفضة تزيد على موقعين، «تويتر وفيسبوك»، ومع التقدم التكنولوجى، زادت مساحات ذلك الغزو الإلكترونى لتصل إلى عشرات المواقع والمنصات التى تتغذى على ملايين المستخدمين حول العالم، فظهرت الأرباح، وتضخمت، وأتخمت جيوب ملاكها، وصناعها، ولم تعد مادة «البلاهة» مقصورة على بعض العبارات والآراء أو المواقف، فامتدت إلى الصور، والفيديوهات، بل وصناعة الأحداث، ولم يجد أثرياء تلك المواقع سبيلًا لتعظيم أرباحهم إلا بتقديم جزء من الجزرة إلى صناع المحتوى، فزادت كثافة البث، واستفحلت التفاهة، وازدهرت مساحات الرقص، والطبخ، والرغى الفارغ، حتى فقرات الدجل والشعوذة من نوعية «جلب الحبيب فى ثلاثين ثانية»، واختلط كل هذا الهراء بفقرات الترويج للكتب، والأفكار، والعروض الموسيقية، والمسرحية، وغيرها من مواد جيدة، ومتوسطة الجودة، وتافهة، وكلها تحظى بآلاف المشاهدات، وتجنى الأرباح وتدرها.. هنا عمت الفوضى، وبدأت رحلة اللجان الإلكترونية فى بث ما تريد من سموم، واستغلال ما استطاعت من وجوه، وحسابات، ويبدو أن ملاك هذه اللجان، أو من يديرونها، لا يترددون فى الإنفاق، فحسابات مكاسبهم من الترويج للفوضى أكبر بكثير من أية أموال تنفق فى سبيلها. 

والغريب أنه رغم انتشار تلك العبارة التى أطلقها المفكر والفيلسوف الإيطالى بين أوساط المثقفين والكتاب والإعلاميين، إلا أن ما حدث على أرض الواقع هو أن هؤلاء على وجه الخصوص لعبوا دورًا كبيرًا فى سيطرة تلك الوسائط على المشهد العام فى جميع أنحاء العالم، فى مصر وغيرها من دول العالم، فالجميع فى الفقر «المالى والعقلى» سواء. كلهم بلا استثناء من «أوبرا وينفرى» حتى أصغر مذيع يستأجر الهواء فى قناة «الحدث»، كلهم بلا استثناء يسيرون خلف «الترند» أيًا كان، ويبحثون عنه، ويتفننون فى مجاراته، واللعب على مضمونه، سواء بالرد أو الترديد والتأييد، فيعملون على زيادة تصدره وانتشاره، لا أحد منهم يفكر فى محتوى، ولا قصدية ذلك المحتوى، واحتمالية تجاهله.. هم أيضًا افترستهم بلاهة ما تسوقه هذه المنصات والمواقع، فكان أن شاهدنا سقوط وسائل الإعلام فريسة سهلة لأدوات التواصل الاجتماعى، خصوصًا مع تقديمها لأرباح سهلة لكل من يحصل على مشاهدات أكبر، وهو بالطبع جزء بسيط من أرباح هذه الوسائط من الدخول عليها، بسبب ما يبثه البعض من محتوى.

والحقيقة أننى لم أكن أتصور أنه من الممكن أن يأتى يوم أفكر فيه، مجرد تفكير، فى ملاحقة محتوى، أو حجبه، لكن ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعى، تجاوز حدود «غزو البلهاء» التى تحدث عنها إيكو بمراحل يصعب التعامل معها باعتبارها أفكارًا أو تصورات بلهاء، أو عفوية الخاطر، فقد أصبحت هى من يصنع اليوم كله، توجهه كيفما شاءت، وإلى أى اتجاه تريد، ولا أظن أنها تتحرك وفق معطيات عشوائية غير مقصودة، أو غير موجهة.. بالتأكيد هناك من يستغل تلك المواقع، ويلعب بها وبنا، والحقيقة أنه لم يعد لدىّ من شك فى أن اللجان الإلكترونية تلعب الدور الأكبر فى تلك الصناعة التى أصبحت تهدد الأمن القومى، ليس فى مصر وحدها، بل فى جميع أنحاء العالم، بما تبثه من أفكار وتصورات، لا تقف عند حدود التكفير، والإرهاب، وصناعة الثورات الموجهة، ويبدو أنها لن تتوقف عند حدود، ما يؤكد ضرورة السيطرة عليها، ومواجهتها وملاحقة صناعها فى كل مكان.

والحقيقة أيضًا أن إدارة مباحث الإنترنت تقوم منذ فترة كبيرة بمجهود ضخم فى محاصرة ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعى من جرائم، يتم ضبط مرتكبيها، وملاحقتهم، وتقديمهم للقانون، ما يفتح الباب أمام إمكانية التفكير فى أن تقوم تلك الإدارة بمتابعة أوكار صناعة الترندات الكاذبة، والمسيئة، والتى تهدد الحياة فى مصر، الموجهة منها على الأقل، وملاحقتها، والكشف عنها، فليس من المقبول أن نصحو كل فترة على فتاوى التكفير، والتشكيك فى الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، وتكدير أوجه الحياة بما تبثه تلك اللجان من سموم وترندات نغرق فيها ومعها، ولا ينجو من سطوة حضورها أحد، ما يرفع من أهمية حصارها، وكشفها، وملاحقة صناعها.. ولا أظن أنه من الصعب اكتشاف تلك اللجان ومعرفة الأوكار التى تنطلق منها، وحساباتها على شبكة الإنترنت، وما تروجه من شائعات وأكاذيب تتصل بجميع شئون الحياة فى مصر وغيرها، وأغلب الظن أن الكشف عنها، سوف يقود إلى شبكات من المصالح، والعلاقات، ومصادر التمويل العابرة للقارات.

فى كل الأحوال، لا أظن أنه من اللائق أن نظل أسرى ذلك الغزو المشبوه، الذى لم يعد، أبدًا، مجرد غزو من بلهاء.. فسوف نكون نحن البلهاء إن ظللنا ندور فى فلك الترند، وتحت تأثير صناعه، ومروجيه، ولو بمجرد الرد والتفنيد.